
مع أن الحديث عن العلاقة الشخصية مع الله لا بد أن يكون حديث كل يوم، لكن فترة الصوم المقدس ربما تكون من أكثر الأيام التي تتاح لنا فيها فرصة مراجعة هذه العلاقة، وتجديد ارتباطنا بالرب يسوع المسيح مخلصنا.. لماذا؟ لأن أسابيع الصوم لا بد أن تأخذنا لأبعد من مجرد الانقطاع عن الطعام لعدة ساعات في اليوم، أو تناول الأطعمة النباتية فقط. الصوم فترة من الجهاد الروحي نركز خلالها على شخص المسيح المخلِّص.. نسير معه في الطريق إلى الصليب، ونُخضع له بالصوم نفوسنا وأفكارنا قبل أجسادنا؛ حتى نختبر فرح وقوة القيامة يعملان في حياتنا.. «مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ.. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غلاطية ٢: ٢٠).
الصوم فرصة لمراجعة النفس في ضوء كلمة الله التي تركز عليها الكنيسة في قراءات أيام الصوم. الحياة مزدحمة وسريعة، المسؤوليات كثيرة والوقت لا يكفي لننجز المطلوب منا؛ والخطورة أنه بينما نحن مشغولون بأمور الحياة قد تتراجع علاقتنا مع الله، وتصبح قاصرة على ترديد بعض الصلوات والتسابيح دون أن تعني أي شيء بالنسبة لنا.. ندخل للكنيسة ونخرج منها كما دخلنا! لاهوت الصوم هو لاهوت الأولويات.. فالصوم فرصة لنعيد ترتيب أولويات حياتنا، فنعود لنعطي لتكريسنا للرب المكانة الأولى في حياتنا. يقول القديس ثيوفان الناسك: “في الصوم.. ادخل إلى قلبك، وافحصه بدقة لتعرف بأي أفكار وأوجاع هو مرتبط.
الصوم فرصة للإحياء والتجديد الروحي.. تجديد للذاكرة حتى لا ننسى ما عمله الرب يسوع لأجل خلاصنا، وإحياء لعمل وسائط النعمة في حياتنا. الصوم الذي يمارس مع صلاة تخرج من قلب يشتاق أن يشبع بشخص الله يجدد العلاقة معه. لكننا نحتاج أن نصلي بما نفهمه؛ حتى لا نردد الكلام باطلًا كالأمم. على سبيل المثال، عندما تصلي مزمور التوبة (مز٥١)، وتردد الكلمات: «طهرني بالزوفا فأطهر»، تُرى ما الذي تطلبه من الله أن يفعله لك؟ ترديد كلمات في الصلاة لا نفهم معناها تعني الاستهانة بهيبة الله! «الزوفا» نبات عشبي كان يستخدم كأداة لرش الدم في طقوس العهد القديم، وقد ارتبط استخدامه في الكتاب المقدس بالخلاص والتطهير؛ ولعل داود النبي أراد بروح النبوة أن يقول ”طهرني بالدم فأطهر.“ لا بد أن نسأل ونبحث عن معاني ما نردده في صلواتنا حتى تصعد إلى أبعد من أسقف بيوتنا وكنائسنا، وتأتي بنا إلى محضر الله.. يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «فلنتقدم بثقة (لا ثقة بدون فهم) إلى عرش واهب النعمة (يسوع) لننال رحمة، ونجد نعمة تُعيننا عند الحاجة» (عب ٤: ١٦). عندما نأتي أمام الله لا بد أن نكون حذرين؛ لأن الله يأخذ ما نقوله بمأخذ الجدية.. «احفظ قدمك حين تذهب إلى بيت الله… لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك إلى نطق كلام قدام الله» (جامعة ٥: ١- ٢). قد تستطيع أن تخدع الآخرين، بكلمات عكس كل ما تعنيه في داخلك، لكنك لا تستطيع بأي حال أن تفعل هذا مع الله.
الصوم، مع الصلاة واللقاء مع إلهنا في الكلمة المقدسة، يطلق يد الرب لتعمل فينا بالروح القدس؛ فنستطيع أن نقاوم بثبات كل فكر لا يرضيه. فترة الصوم المقدس هي فرصتنا لندرب حواسنا على الاستقامة الروحية (“روحًا مستقيمًا جدد في أحشائي”)، فننتبه لكل ما تراه أعيننا، وما تسمعه آذاننا؛ حتى لا تكون العين أو الأذن، أو كلاهما، آلة للمتعة التي ترتفع كغيمة فوق رأسك، فتعيق تواصلك مع الرب الحي، بل وقد تهدم حياتك، وتهدد زواجك، وتفقدك فرصة لتقديم نموذج يحتذي به أبناؤك.. «تناهى الليل واقترب النهار؛ فلنطرح أعمال الظلام ونحمل سلاح النور. لنسلك كما يليق السلوك في النهار: لا عربدة، ولا سُكْر، ولا فجور ولا فحش (إباحية)، ولا خصام ولا حسد. بل تسلحوا بالرب يسوع المسيح، ولا تنشغلوا بالجسد لإشباع شهواته» (رومية ١٣: ١٢- ١٤).
في الموعظة على الجبل رفع الرب يسوع من مستوى المتوقع من المتعبد الذي يصوم ويصلي ويتصدق من الممارسة المجردة إلى التطبيق العملي: «إذا كنت تقدم قربانك إلى المذبح وتذكرت هناك أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أولاً وصالح أخاك، ثم تعال وقدم قربانك» (متى ٥: ٢٣- ٢٤). لا تترك أيام الصوم تمضي قبل أن تجدد علاقتك مع الله بتوبة صادقة، وعزم لا تراجع فيه ألا تعود لطرقك القديمة.. لا معنى لصومك ما لم تصالح زوجتك، وتصفحي عن أختك.. تشفق على جارك، وتتفهمي احتياجات ومعاناة الآخرين. ولا تؤجل توبتك لصوم العام القادم.. “كثيرًا ما تقول غدًا أتوب، وينتهي كل شيء.. ولكن ماذا يحدث لو مت قبل أن يأتي الغد؟ إن الذي وعدك بالغفران إذا تبت لم يعدك بالغد إذا أجلت.” (القديس أوغسطينوس).
إنها فرصتنا أن نصوم كما يريد الله!