بقلم فاطمة ناعوت
كان هناك راعى غنم فقير، مشهودٌ له بالطيبة والخلُق والصدق والفضيلة، حتى كان الملاذَ إذا ما اختصمَ الناسُ فى البلدة وطلبوا المشورة والحكمة. وفى أحد الأيام، عثر الرجلُ على خاتم مسحور، إذا وضعه فى إصبعه، ثم أداره لليمين، اختفى عن الأنظار، ويُعاود الظهورَ إذا أداره فى الاتجاه المعاكس. تبدّلت سماتُ الراعى الطيب، وتسلّل إلى القصر الملكى، متخفيًّا بخاتمه. قتل الملك، وتزوج الملكة، ثم استولى على العرش. هذا هو جيجيس، بطل فرضية طرحها الفيلسوف أفلاطون فى إحدى محاورات كتاب الجمهورية، طارحًا سؤالًا وجوديًّا كبيرًا: هل الأخلاقُ مرهونةٌ بالخوف من العقاب؟ أم هى نزعةٌ ذاتيةٌ فى الإنسان؟ كيف تبدّلتْ أخلاقُ جيجيس بعدما اطمأن أن أحدًا لن يراه؟ وهل كان يمتلك الأخلاقَ حقًّا قبل حصوله على الخاتم؟
الحقُّ أن عدم ارتكاب الخطايا خوفًا من رأى الناس فينا، لا يعنى أننا فضلاء. فالأخلاق يجبُ أن ترتكز على الذات، وليس على وجود السلطة الخارجية، سواء كانت سلطة المجتمع أو القانون أو السماء. فحين تتجنب ظلمَ الناس خوفًا من القانون، أو خوفًا من النار أو طمعًا فى الجنة، فذاك لا يعنى أنك عادل. تكون عادلًا ذا خلق حقًّا، إذا نبع العدلُ من داخلك دون طمع فى ثواب أو خوف من عقاب. الأخلاقُ تتأسس على ضمير الإنسان، ومراقبته لنفسه، دون عصا أو جزرة.
فكرتُ فى ذلك المدخل لأتحدث عن مفهوم الأخلاق فى صالونى الشهرى، بعد غد الأربعاء 28 أغسطس، فى فندق سونستا (الدعوة عامة ومجانية)، مع ضيف الشرف لهذا الشهر، البروفيسور د. أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسى، ومستشار الرئيس للصحة النفسية والوفاق المجتمعى. وهنا تحضرنى قصة حقيقية طريفة.
فى أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة، كان الراهبُ يتوجّه إلى كنيسته كل نهار، فيتحلّق حوله الأطفالُ يُغنّون ساخرين: الكنيسة وقعت والقسيس مات. زغردوا يا بنات! لم ينهرهم الراهبُ ولا زجرهم. بل راح يوزّع عليهم قطع الحلوى فيزيدون من صخبهم وغنائهم. وظلَّ الحال شهورًا. وفجأة توقف الراهبُ عن توزيع الحلوى على الأطفال، فاندهشوا وارتبكوا، وانفضّوا عن الراهب. فى اليوم التالى تحلّق الأطفالُ حول الراهب وساروا جواره صامتين دون غناء. ولما سألهم لماذا لم يعودوا يغنّون ويلعنون؟ أجابوه فى عفوية: ولماذا نُغنّى؟ ألم تتوقف عن إعطائنا قطع الحلوى؟!
هذا الراهبُ لعب مع الأطفال لعبة سيكولوجية ذكية. مبدأ الارتباط الشرطى. جعل الأطفال يربطون ملاعنة الراهب، بالحصول على الحلوى. فلما انقطعتِ الحلوى، توقفت الملاعنة بالتبعية. بعد برهةٍ من صمت الأطفال والتوقف عن مشاكسة الراهب، مظنّةَ أنهم يعاقبونه بصمتهم، عاد الراهب لتوزيع الحلوى على الأطفال. فالتقط الأطفالُ الدرس. مرّتِ السنواتُ وطعن الراهبُ فى العمر، وكبر الأطفالُ وصاروا شبابًا يافعًا من السلفيين. يوم وفاة الراهب، وبعد طقوس تجهيز المتوفى، كان أبناءُ الحى السلفيون متجمهرين أمام باب الكنيسة فى انتظار النعش. قال السلفيون للمسيحيين: هذا الرجلُ يخصّكم داخل حرم الكنيسة، أما خارجها فهو يخصّنا نحن، ونحن أولى به منكم، فقد تعلّمنا منه الكثير. وحملوه على الأعناق وسط دموعهم إلى المدافن. ذلك الرجل الفطِن هو الأب يوحنا عبد المسيح، كاهن كنيسة السيدة العذراء بمنطقة القللى بالقاهرة. وكان صديقًا وأبًا للجميع، دون النظر إلى عقائدهم بل إلى قلوبهم. فلم تنقطع ذكراه برحيله، بل تحوّل إلى أيقونة لا تُنسى.
الأخلاقُ كنزٌ ثمينٌ يستمتع به الإنسانُ فى حياته، ويأخذه معه إلى آخرته، عكس الكنوز الدنيوية التى نتركها فى خزائننا ليستمتع بها ورثتُنا، ولا تذهب معنا إلى قبورنا. وهنا تصديق للحديث الشريف: إذا ماتَ ابنُ آدمَ، انقطعَ عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفعُ به، أو ولد صالح يدعو له. ذلك الكاهن الطيب حصد دعوة أولاد صالحين يدعون له، ليسوا من صُلبه ولا من عقيدته. لأنه طبّق فيهم إحدى عظات السيد المسيح عليه السلام فوق الجبل: باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم...، فبارك الأطفالَ اللاعنين، ثم أحسن إليهم بقطع الحلوى. ويتفق القرآنُ الكريمُ فى ذلك المعنى فى آية جميلة تقول: والكاظمين الغيظَ. والعافين عن الناس. واللهُ يُحبُّ المحسنين. وتحكى أدبياتُنا عن خادم كان يصبُّ الماء لسيده للوضوء، فأهرق الماءَ على ملابس سيده، فاغتاظ وكاد أن يبطش بالخادم. هتف الخادمُ فى سيده: يا مولاى والكاظمين الغيظ!، فكبح السيدُ غيظَه. فاستأنف الخادمُ: والعافين عن الناس!، فقال السيدُ: عفوتُ عنك.، فأكمل الخادمُ: واللهُ يحبُّ المحسنين، يا مولاى!، فابتسم السيدُ قائلا: اذهبْ فأنت حرٌّ. سيكونُ العالمُ أجملَ وأرقى حين نُطبِّق بأفعالنا ما نردّده بألسننا. الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.