في مبنى ملحق بدير المحرق العامر بصحراء أسيوط، يستيقظ جرجس كل صباح، يتحسس طريقه لقاعات الدرس، ليبدأ رحلته مع الألحان الكنسية التى بدأها قبل ثلاث سنوات حين قرر الالتحاق بمعهد ديدموس للألحان الكنسية ليصبح بعد مضى خمسة سنوات من الدراسة مرتلًا بالكنيسة أو "معلم" مثلما يطلق على أصحاب تلك الوظيفة.
مرتل الكنيسة هو كبير الشمامسة، يقود الصلوات فيها بصوته باللغتين العربية والقبطية، ويردد من خلفه الكهنة والشمامسة وشعب الكنيسة، لذلك فإن التمتع بصوت عذب مع حفظ ألحان الكنيسة القبطية شرطان أساسيان لتقلد تلك الوظيفة الكنسية.
القمص ميصائيل المحرقى، الراهب بالدير المحرق، يشرف على هذا المعهد ويديره منذ أكثر من 30 عامًا أي منذ تأسيس المعهد تقريبًا يقول لـ"اليوم السابع"، أن المعهد تأسس عام 1978 وهو ضمن ثلاثة معاهد تقدم تلك الخدمة للكنيسة على مستوى الجمهورية أحدهم بالكاتدرائية، حين لاحظ الأنبا ساويرس رئيس دير المحرق الراحل_ الذى توفي قبل عام_ حاجة الكنيسة للمرتلين المؤهلين، فقرر تأسيس هذا المعهد إلى جوار الكلية الإكليريكية التى تخرج القساوسة بالدير.يؤكد القمص ميصائيل، أن المعهد ملزم بتوظيف خريجيه قبل إتمام سنوات الدراسة الخمس بالمعهد، فالدراسة هنا داخلية يقيم الطالب بالمعهد إقامة كاملة، ولا يخرج إلا للعمل فى الكنائس، مؤكدًا أن المعهد يضع سن الـ24 عامًا حدًا أقصى لقبول الطلاب به.
أما بالنسبة لشروط الالتحاق يقول القمص ميصائيل، أن المعهد يقبل الطلاب المبصرين والمكفوفين الحاصلين على شهادة متوسطة أو الثانوية العامة على الأقل، بينما يعفى المكفوفين من هذا الشرط ويتم قبولهم من سن الـ15 سنة وحتى 24 أما المبصرين فمن سن 17 سنة، بحيث ينهى الطالب شهادته المتوسطة، ولا يسمح بقبول المتزوجين، وعليه أن يجتاز الاختبار الشخصى الذى تقيمه إدارة المعهد، لنتأكد من عذوبة صوته ونطقه السليم، واستعداده للعمل فى تلك الوظيفة، مع الحصول على خطاب تزكية من أب كاهن، مشيرًا إلى أن المعهد يتلقى أوراق الطلاب الجدد فى أغسطس، ويعقد اختبارا شخصيًا منتصف سبتمبر من كل عام.
يؤكد القمص ميصائيل، أن المرتل يعلم الأجيال الصغيرة ألحان الكنيسة التى تسلمناها من الآباء الأوائل، ويقود التسبيح والصلوات، لذلك فعليه أن يؤدى عمله بمحبة، فهى ليست وظيفة بل خدمة فى الكنيسة، لذلك يترك الطالب الملتحق بالمعهد أى وظيفة أخرى لأجل تلك المهمة، فلا بد وأن يحب الألحان ويحب الصلوات والتسبحة.
يرفض المعهد قبول الفتيات للالتحاق به ويقتصر الأمر على الذكور، مثلما يقول القمص ميصائيل، فالفتيات لا ترتل فى الكنائس وفقًا للطقس الأرثوذكسى، ولا تحصل على درجات كنسية كالتى يحصل عليها طلاب المعهد الذين يحصلون على رتب "أغسطينوس" أى شماس ومرتل، ومن ثم لا يمكن قبولهن، حتى وإن كانت الفتاة ترغب فى تعلم التسبحة دون عمل، فإن وجود المعهد داخل دير رهبان لا يتيح لهن تلك الفرصة، فلا يجوز أن تتردد الفتيات على أديرة الرهبان حتى ولو للدراسة."يدرس الطالب كل ألحان وتسابيح الكنيسة إلى جانب اللغة القبطية التى نعلمه يقرأ ويكتب بها"، يوضح القمص ميصائيل ويضيف: وهناك حصة واحدة للمكفوفين حيث تتم الدراسة بطريقة برايل باللغتين العربية والقبطية، يسمع المكفوف فيها الحرف وكيفية النطق به ومقاطع تطبيقية، فنعلمه كيف يتهجأ وينطق ثم يكتب بطريقة برايل.
يستكمل القمص ميصائيل: نعلم الطلاب مواد لاهوتية أخرى، ونعطيه فكرة عن الكتاب المقدس، ودراسات العهد قديم والجديد والمزامير واللاهوت الطقسي وتاريخ الكنيسة، مشيرا إلى أن الآباء الرهبان بالدير المحرق يدرسون المواد اللاهوتية، أما الألحان والتسبحة واللغة القبطية يدرسونها مرتلون من خريجى المعهد، حتى أن بعض الخريجيين يقررون الاتجاه لسلك الكهنوت، ويصبحون قساوسة.
ويتابع القمص ميصائيل: اختار من بين الطلاب من لديه رغبة في البحث العلمي والقدرة على التواصل مع الطلاب ليصبح معلما فى المعهد، ولدى معلمًا كفيفًا تخرج فى كلية الآداب ويدرس لزملائه المكفوفين بطريقة برايل.
وعن تطور اللحن القبطى، واتجاه بعض المرتلين للترانيم قال القمص ميصائيل، أن الموسيقار راغب مفتاح استعان بالمعلم ميخائيل البتانونى، وهو أحد مرتلي الكنيسة ، لتسجيل كافة ألحان الكنيسة القبطية مع اثنين من الأجانب، وتم حفظ كافة الألحان في مكتبة الكونجرس الأمريكية، معتبرًا اتجاه المرتلين للترنيم أمرًا فرعيًا مستجدًا على تلك الخدمة ولا يخص المعهد في شئ.
أما القمص برنابا المحرقى الذى يدرس الكتاب المقدس في المعهد، يقول أن الطلاب الملتزمين بألحان الكنيسة لا يحبذون فكرة الاتجاه للترانيم لأن بعض الألحان تميل لإيقاع الأغانى، فالكنيسة لا تستخدم فى ألحانها إلا آلات معينة هى الدف، والتريانتو والصنج، أما باقى الآلات المستخدمة فى الترانيم فلا نحبذ استخدامها مثل البيانو والأورج والمزمار كلها تمثل خروجًا على طقس الكنيسة.
وتابع القمص ميصائيل: حتى القرن العشرين كان الحفاظ على اللحن من كنيسة لكنيسة ومن دير لدير ومن معلم لمعلم وفقا لقاعدة التسليم والتسلم التى تقوم عليها الكنيسة حتى ظهرت التسجيلات، وأصبح هناك اتساع وانتشار للألحان، وتنوع يمكننا من المقارنة بين اللحن بصوت مرتل وصوت أخر.
أنهى القمص ميصائيل كلامه، وأخذنا فى جولة بين أروقة المعهد، فرأينا معملًا للطلاب المكفوفين يتعلمون فيه اللغة القبطية بطريقة برايل، وغرفة مخصصة لشرائط الكاسيت والسيديهات ، أما الطلاب فكانوا يرتلون لحن أبؤرو القبطى الشهير، أشهر ألحان الكنيسة القبطية، حيث وقف جودت وجرجس السودانيان القادمان من بلادهما خصيصا لتعلم الألحان الكنسية إلى جوار زملائهم أبانوب ومارسيلوس وجرجس المكفوفين والمبصرين، ليرتلوا ألحان الكنيسة بهذه الأصوات العذبة، وهم يتذكرون سيرة القديس ديدموس الكفيف الذى سمى على اسمه معهدهم هذا.