بقلم حمدي رزق
فى مثل هذا اليوم من كل عام، يعطر د. مينا بديع عبدالملك هذه المساحة بسطوره عن قداسة البابا كيرلس، ويقول فى رسالته: أشعر بسعادة غامرة عندما أجلس لأسجل ذكريات عزيزة جدًا عن قديس القرن العشرين البابا كيرلس السادس البطريرك 116 الذى تحل ذكراه العطرة فى 9 مارس.. هذا الذى رأيته بعينى، وسمعته بأذنى، ولمسته يداى.
من بين هذه الذكريات- التى كان قد أخبرنى بها والدى الأستاذ بديع عبدالملك (1908- 1979)- أنه فى منتصف الأربعينيات توجه إلى المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية راهب طويل القامة ونحيف، حاملًا شنطة سوداء، وهو الراهب مينا البراموسى المتوحد، وتوجه لمقابلة مفتش الآثار بالمتحف، وهو الأستاذ بانوب حبشى (1913- 1956) ووالدى، وذلك بغرض مخاطبة مدير مصلحة الآثار المصرية للتصريح للراهب بالإقامة بمنطقة القديس مينا الأثرية بمريوط، لأن هناك مطامع من الكنيسة اليونانية فى الاستيلاء على تلك المنطقة لحبهم الشديد للقديس مينا.
وفعلًا، قام الأستاذ بانوب حبشى بتقديم طلب للأستاذ طوجو مينا (1906- 1949) مدير المتحف القبطى بالقاهرة فى ذلك الوقت. لكن حدث أن الأستاذ بانوب حبشى توفى فى عام 1956، كما أن إرادة الله الصالحة أنه أقام للكنيسة القبطية الراهب مينا البراموسى المتوحد فى 10 مايو 1959 بطريركًا على الكرسى المرقسى بالإسكندرية باسم البابا كيرلس السادس، وكأن السماء استجابت لطلب هذا الراهب البار قبل أن تبحث هيئة الآثار فى الطلب!!، فأصبحت منطقة القديس مينا بمريوط تحت رئاسة البابا كيرلس.
وبعد جلوسه على كرسى الإسكندرية بفترة 40 يومًا، وبالتحديد يوم الجمعة 26 يونيو 1959، توجه إلى منطقة القديس مينا بمريوط للصلاة، احتفالًا بتذكار تكريس الكنيسة الأثرية التى أقيمت فى القرن الرابع الميلادى، وقد كنت أحد الذين حضروا الصلاة مع البابا كيرلس وأنا أبلغ من العمر 9 سنوات، وكنت بصحبة والدى، لكن البابا كيرلس السادس- لأنه أب- لم ينسَ صديقه الأستاذ بانوب حبشى، الذى كان قد توفى عام 1956، فطلب إرسال سيارة خاصة من بطريركية الإسكندرية إلى منزل بانوب حبشى لاصطحاب نجلى الأستاذ بانوب وهما الطفلان مينا وميلاد لحضور الاحتفال بمريوط.. وهكذا فى عمق أبوته الحقيقية لم ينسَ طفلى صديقه واحتضنهما بأبوة شديدة.
كان يحرص بشدة على أموال الكنيسة، لأنها أصلًا موجهة للفقراء. فعندما أصيب بجلطة فى قدمه، طلب منه الرئيس عبدالناصر فى عام 1969 أن يتوجه إلى مصحة خاصة فى روسيا للعلاج، فشكر الرئيس على اهتمامه ورفض السفر. كان يرتدى أبسط الثياب بدون زركشة، كما كان يحرص على أن يوجه نظرنا ونحن أطفال صغار إلى الاقتصاد فى استعمال عيدان الكبريت لإضاءة الشموع بداخل الكنيسة توفيرًا لأموال الكنيسة، وأيضًا حُسن استخدام الكتب الكنسية لتكون متوافرة معنا أطول فترة ممكنة.
عاش فى زهد كامل ونقاوة قلب ونُسك شديد وسهر فى الصلاة. عاش راهبًا حقيقيًا طوال حياته قبل وبعد البطريركية. فذكراه العطرة تدوم إلى الأبد فى كل محبيه وما أكثرهم!.