كمال زاخر
الرهبنة حركة شعبية إختارت ان تبقى بعيداً عن الرتب والمواقع الرسمية، وعندما كانت الصحراء تموج بالتجمعات الرهبانية، كانت تستدعى كاهناً من المدينة على فترات متباعدة لإقامة القداسات، يعرف بـقس الأسقيط، أو قس القلالى، وكان المؤسسون الأوائل؛ أنبا مقار وأنبا أنطونيوس وأنبا آمون، يذهبون وتلاميذهم الى الكنيسة خارج أسوار ديرهم، ولم تختلط الرهبنة بالكهنوت فى سنوات التأسيس هذه، باستثناء من إستعان بهم البابا اثناسيوس الرسولى فى خدمة بيت الضيافة، وبعد الدور التاريخى والمؤثر الذى لعبه معه مؤسس الرهبنة فى تثبيت إيمان الشعب، وتتوسع الكنيسة فى الإستعانة بالرهبان فى الخدمة الكهنوتية بالكنيسة، حتى إلى رتبة الأسقف، خاصة بعد أن إزدادت أعباء الرعاية، وانتشرت الكنيسة، وكان المبرر أن الرهبان هم الأكثر تفرغاً لا تشاغلهم أعباء الحياة الأسرية ومسئولياتها، فضلاً عن تلمذتهم لآباء قديسين آنذاك.
لكن الإشكالية التى نطرحها هنا متعلقة بالمشهد الآنى وشيوع توالى الرسامات الكهنوتية داخل الدير الواحد، حتى صارت الرسامة الكهنوتية حقاً ينتظره الراهب فى كثير من الأديرة، التى تظهر فيها قوائم إنتظار لتلك الرسامة مرتبة بحسب أقدمية الرهبنة، وفى مرحلة من المراحل صار تجاوز من يحل عليه الدور فى الرسامة بمثابة عقوبة أو مؤشرا لغضب الرئاسة الديرية والكنسية، تُسلِّم الراهب، الذى لم يصبه الدور، إلى حالة من الحزن والإكتئاب، تخضع لعلاجات نفسية وعصبية، وبعضها تنتهى إلى مفارقة الحياة، وهى حالات تابعتها عن قرب.
وكان الإتجاه للتوسع فى مد مظلة الخدمة الكهنوتية الرهبانية فى حقول الخدمة بالكنيسة خارج الأديرة أحد العوامل التى أفرغت الأديرة من الشيوخ، أو المتقدمين فى القامات الروحية الذين يتتلمذ عليهم شباب الرهبان، فمع التوسع فى الرسامات الأسقفية لتتجاوز حاجز المائة، وإسناد العديد من مواقع الخدمة بالكنائس المحلية وكنائس المهجر إلى رهبان تقتضى منحهم درجة كهنوتية، وهى تجربة يتوجب مراجعتها وتقييمها، بموضوعية، ورصد ما انتجته من تداعيات لم تكن إيجابية بامتداد التجربة. فصارت أديرة بلا تلمذة!.
وعندما تختفى التلمذة فى منظومة الرهبنة نصبح أمام إختلالات تؤثر سلباً على المكوِّن الرهبانى البشرى، وتتداعى النتائج بامتداد الوجود الرهبانى فى مواقع الخدمة الكنسية على أصعدة متعددة، ويئن الدير ومعه الكنيسة وتتراجع قواعد الخدمة والتعليم والتسليم الآبائى، ويتأثر الراهب الذى أنتزع من بيئته الحاضنة والحافظة ليلقى به فى خضم العالم وحروبه، وتتداعى النتائج.
الترتيب الكنسى يقضى بوجود درجتين فى رتبة القسيسية، القس والقمص، والأخير يُعرف فى المطرانيات باسم وكيل الشريعة، ومن صلاحياته إدارة كنيسته وتوجيه ومتابعة القسوس، فهو الأكثر إحتكاكاً بالرعية وبإخوته، وتقديم رؤيته للأب الأسقف وفق الترتيب الكنسى، ويتلقى منه توجيهاته ليترجمها بعد مناقشتها فى كنيسته.
تجربة إسناد الإشراف على مجموعات صغيرة من الكنائس لأسقف العام، أنتجت عملياً تراجع موقع الأب القمص عند رعيته، لحساب الأسقف الذى يجد نفسه غارقاً فى تفاصيل وتفريعات كان يحملها عنه الإيغومانس، ويتجاوز الشباب والقسوس رعاتهم المحليين يطرقون باب الأسقف الذى يستريح لهذا، فتختل الرعاية، وبين إستقدام الرهبان لمواقع الخدمة والتوسع فى إشراف الأساقفة العموم وتقسيم الإيبارشيات المبالغ فيه، يتم تقليص دور الخدام العلمانيين والكهنة المتزوجين لحساب الرهبان، وتعاود الكنيسة الأنين ومعها الدير والراهب، وينعكس هذا سلباً على الخدمة والأسر والشباب والراهب. بالرغم من إبهار الشكل، ونكتشف أنه لن تستقيم الخدمة مع إستمرار هذا المنهج. الذى لا يحقق التوازن الصحيح بين الخدام العلمانيين وكهنتهم وبين الخدام من الرهبان كهنة واساقفة.
وعلى الكنيسة أن تتخذ من الإجراءات ما يعيد التوازنَ للخدمة كما عرفتها قبلاً بين جناحيها الإكليروس والعلمانيين، فى غير إنحياز لأيهما، بالتوقف فوراً عن استقدام آباء رهبان للخدمة خارج الدير، والحد من رسامة الأساقفة العموم بغير مقتضى، وإعادة الإعتبار لرتبة الإيغومانس فى كنيسة المدينة والقرية، ولدرجة الشموسية برتبها المتدرجة فتصحح اخفاقاتِ تجربة مدارس الأحد التى استقدمت من مناخات خارجية وزُرِعَت فى جسد الكنيسة، فلم تأتِ رغم دعم الكنيسة لها بالثمار المنتظرة منها.
أن تجربة تفضيل الرهبان على ما عداهم، ثم حصر مهمة التعليم الكنسى العام على الإكليروس، وإبعاد العلمانيين الأتقياء الدارسين المؤهلين عن مهمة التعليم أخل بالتوازن والتكامل الكنسى، وانعكس سلباً على مستوى ومنتج التعليم، والذى نراه فى الصراعات المعلنة والمتوارية والمكتومة فى الكنيسة عند قمتها والسفح، لينتج فى النهاية أغلب ما تعانى منه الكنيسة والبيت المسيحى، وتشهده المجالس الإكليريكية، ومحاكم الأسرة ومكاتب الأحوال الشخصية.
وأذكر يوماً فى إجتماع لقداسة البابا شنودة فى سنى البابوية الأولى، وكان منفعلاً وهو يوجه كلامه، فى لحظة مكاشفة نادرة، لمجموعة من الآباء الكهنة كانوا ضمن الحاضرين؛ بقوله : هل يفسر لى أحدكم هذه المفارقة غير المفهومة؛ عندما كان العلمانيون، يتولون مهمة الوعظ والتعليم فى الكنيسة قدموا للكنيسة من ثمارهم قامات كبيرة وخرج من تحت أيديهم رجال أتقياء ونساء تقيات وكهنة وأساقفة قديسين، وعندما صار التعليم مهمتكم ماذا أنتج للكنيسة؛ غير المشاكل والصراعات والأزمات الأسرية، وصداع مزمن لشكاوى عن غياب الرعاية والإفتقاد والسعى للثراء وغيرها من الشكاوى التى لا تنقطع.
الكنيسة بحاجة إلى فك الإرتباط بين الرهبنة والدرجات الكهنوتية والخدمة الرسمية حتى يعود السلام للدير والكنيسة؛ فالغاية الأولى والوحيدة للرهبنة هى السعى الدؤوب إلى كمال اتحاد الراهب بالله، عبر صلاة لا تنقطع ولا يشاغلها مسئوليات تفرضها تحميله بشئون تدبيرية فى العالم خارج قلايته، وينعكس هذا بالضرورة على سلام الكنيسة التى ستجد فى صفوف الرهبان، من يصلح لخدمتها وفق معايير آبائية مدققة وموضوعية دون أن تخايله أمراض ومتاعب السعى لها والصراع عليها.
هل يمكن الفصلُ بين الرهبنة والكهنوت، وبين الكهنوت الديرى والخدمة بالكنائس خارج الأديرة، وهل يمكن البحث عن حلقة وسيطة بين الرهبنة والخدمة الأسقفية، تعالج مفارقات اختلاف المناخين نفسياً وفكرياً، لنجنب الكنيسة العديد من الأزمات والإشكاليات التى أفرزها الواقع، وتئن منها الخدمة؟.
وفى سياق الخدمة الأسقفية التى يتولاها الرهبانُ حصراً، هل نملك الإقرار بأن العلاقة بين اسقف الإيبارشية وكهنتها تدار بشكل يخرج بها عن إطار الأبوة فى مواقع عديدة حتى كادت ان تتحول إلى ظاهرة، وهل يمكن وضع قواعد منظمة لهذه العلاقة تحجم الصلاحيات المطلقة الممنوحة للأسقف، بغير أن يحسب هذا إقلالاً من مقامه، وتحرر القسوس والقمامصة من ضغوط الخوف، المنتج للممالأة، او التمرد، أو الخمول، أو الإستغراق فى أعمال جانبية اجتماعية أو فى أعمال البناء والتشييد، وكلاهما يمنح الكاهن شعوراً مزيفاً بتمام خدمته ؟!.
الكنيسة بحاجة إلى جسارة مراجعة قصر الرسامة الاسقفية على الرهبان، اعادة الاعتبار لرتبة الايغومانس، تقييم تجربة الاسقف العام، تدشين نسق الرهبنة الخادمة، الفصل بين ملكية الأديرة لمشروعاتها الانتاجية وبين ادارتها، تقليص زيارات الأديرة الى الحد الذى يعيد للأديرة سلامها.