كنيسة صخرية فريدة على قمة الطرف الغربي من جبل الطير.. التابع لمركز سمالوط بالمنيا.. كنيسة أثرية تحتضن الخضرة والنيل في منظر بديع.. زارتها العائلة المقدسة أثناء رحلة هروبها إلى مصر، ومكثت في المغارة بها مدة ثلاثة أيام، فأخذت المغارة قدسية عظيمة.. الكنيسة منحوتة في الصخر وتصنف ضمن كنائس صخرية فريدة في العالم..
ومع كل هذه البركات، تزامن تطوير وتنمية المنطقة مع وجود “رجل” يتميز برؤية ثاقبة وحكمة في التعامل، خاض معارك كثيرة عبر46 سنة على كرسي إيبارشية سمالوط وطحا الأعمدة لكي يحافظ على هذا الأثر الفريد واستعان بالمتخصصين في الترميم، وهو نيافة الحبر الجليل أنبا بفنوتيوس مطران سمالوط وطحا الأعمدة.
مرت الكنيسة برحلة ترميم استمرت لمدة خمس سنوات لكي تصل في النهاية لتحفة أثرية تقدم كهدية للعالم مع بداية العام الجديد.. وحضرت وطني مراسم الاحتفال بتدشين وافتتاح كنيسة السيدة العذراء بدير جبل الطير بعد الانتهاء من ترميمها..
وفي حفل مهيب في أول يوم من أيام السنة الجديدة 2023 ، قام نيافة الحبر الجليل الانبا بفنوتيوس مطران سمالوط وطحا الاعمده ، بتدشين وإفتتاح كنيسة السيدة العذراء الأثرية بدير جبل الطير، بعد الانتهاء من ترميمها، الذى استغرق خمس سنوات، وشارك نيافته لفيف من كهنة الايبارشية، وسط احتفالية كبيرة بتدشينها وفي حضور شعب الإيبارشية.
وبدأ اليوم بالقداس الإلهي تخلله صلاة تدشين الكنيسة وقام نيافة الحبر الجليل أنبا بفنوتيوس بتدشين كل الكنيسة ومحتوياتها، وفي كلمة نيافة أنبا بفنتيوس تكلم عن ذكرياته بزيارته لهذه الكنيسة المباركة قبل بدء حياته الرهبانية وتأثره ببركتها، وكيف كانت من أول أهداف التطوير لديه عند رسامته أسقفاً على إيبارشية سمالوط وطحا الأعمدة واليوم تحقق هذا الحلم.
وكان لوطني لقاء مع نيافة الحبر الجليل أنبا بفنوتيوس مطران سمالوط وطحا الأعمدة، ليوضع لنا كيف تحقق هذا الحلم وكيف أعانه الله في ترميم هذا المكان المبارك..
أنبا بفنوتيوس يدشن أيقونة المسيح بكنيسة السيدة العذراء الأثرية
قصة نيافة أنبا بفنوتيوس مع دير جبل الطير؟
عندما تم اختياري أسقفاً على الإيبارشية بسمالوط، زرت كل الكنائس الموجودة بالإيبارشية، شدتني كنيسة العذراء بدير جبل الطير وفكرت أن هذا المكان يجب أن يتم الاهتمام بتعميره، ويتم تطويره على أكمل وجه، وهذا ما حدث بالفعل الأن..
في أغسطس عام 1971م كانت لي زيارة إلى هذا المكان قبل الرهبنة (ينايرعام 1972م) في رحلة لزيارة أديرة وجه قبلي، وفي ذلك الوقت لم تكن هناك كباري تربط ضفتي النيل ولم تكن هناك حتى عوامات تتحرك بالديزل، فكان يوجد فقط مراكب لنقل الحجارة من ناحية لأخرى، فانتقلت في أحد تلك المراكب وصعدت على السلم القديم – وهو مازال موجوداً حتى الأن – وزرت الكنيسة والمغارة وتقابلت مع نيافة الأنبا ساويرس – المطران وقتها – والذي تزامن وجوده وقتها في جبل الطير. وتطلب الأمر بياتي هناك فنمت على حصيرة داخل الكنيسة، لأنه لم يكن هناك في ذلك الوقت أماكن للضيافة وكانت هذه الكنيسة الوحيدة بالمنطقة التي يمكن الصلاة فيها.
عندما شاءت إرادة الله أني أكون أسقفاً ومسئولاً عن هذا المكان، كان اهتمامي الأول بالكنيسة وشعب القرية، فهذه القرية يقترب حالياً تعداد سكانها من 25 ألف نسمة.. وتوسعت القرية بشكل كبير عنما كانت عليه من 46 سنة قبل رسامتي أسقفاً.
وأقمنا كنائس أخرى لخدمة أبناء القرية، ولأن المكان حظى ببركة زيارة العائلة المقدسة فيه، راعيت أن تكون الأسماء مرتبطة بالعائلة المقدسة، فكانت أسماء الكنائس: كنيسة العائلة المقدسة، كنيسة القديس يوسف البار – حارس الميلاد البتولي، كنيسة سالومي – رفيقة الرحلة، وأيضا هناك كنيسة باسم الهروب إلى أرض مصر وكنيسة المغارة، وأيضا شيدت كنيسة باسم أبو مقار.
كنيسة السيدة العذراء الأثرية بدير جبل الطير، عبارة عن صخرة كبيرة محفورة من الداخل حيث أن حوائط الكنيسة كلها قطعة واحدة وليست حجر فوق حجر، وأعمدة الكنيسة هي جزء من الصخرة حيث حفر من حولها وتركت هي قائمة. وهيكل الكنيسة أيضا جزء من هذه الصخرة ونجد حضن الأب أيضا هو منحوت في جانب من هذه الصخرة الكبيرة.
بالبحث والاستقصاء عرفت أن المطارنة الذين سبقوني من الأنبا توماس (1918 – 1935) والأنبا ساويرس (1935 – 1976) كلاهما أهتما بالكنيسة وتم عمل أعمال انشائية بها من عام 1928 حتى 1938 ولكن هذه الأعمال كانت غير مدروسة أثرياً، لقلة الوعي الأثري وقلة الكفاءات الفنية في ذلك الوقت، ولأن الدير يقع في منطقة نائية في شرق النيل ولا يربطه بالحضر غير مراكب، وأيضا بسبب وجود هذا الدير فوق هضبة ارتفاعها يقترب من السبعين متراً وهذه الهضبة رأسية، ويصعب الوصول إليها بسهولة، وإن كان هذا حماها من المياه الجوفية التي تعرضت لها كنائس كثيرة منها كنائس مصر القديمة.
كان هناك سقف صخري يغطي الكنيسة ويغطي الأعمدة الرئيسية، فكان يغطي الجزء الأوسط فقط من صحن الكنيسة، أما الجوانب كانت مغطاه بفلق نخيل وجريد.. فقام الآباء المطارنة الإثنين السابقين لي، برفع الأفلاق وتعلية دور كامل فوق الكنيسة لإستيعاب المزيد من المصلين وأزالوا السقف الصخري الأثري وأضافوا مدخل قبلي ومدخل غربي ليعطي مساحات إضافية لتواجد المصلين، وفي الدور العلوي أقاموا هيكل وأضافوا قبة ومنارة.
وفي عام 1976 عندما توليت المسئولية، أول قرار اتخذته كان منع إقامة سر المعمودية في الجرن الذي يقع داخل العمود الثالث بالكنيسة من الجهة القبلية، وكان يوجد معمودية مقامة في صحن الكنيسة في الجزء الشمال الغربي، فقمت ببناء ثلاثة أجران معمودية في حجرة خارج صحن الكنيسة ملحقة بها في الجانب البحري الغربي وقمنا بإزالة المعمودية الموجودة داخل صحن الكنيسة.
وفي عام 1987م بنيت مبنى دار مطرانية قريب من الكنيسة وخصصت فيها مساحة في الدور الأرضي لتكون صالة للمعموديات بها سبع أجران معمودية ليتم فيها عماد الآلاف المقبلين على الإيمان من الأطفال.
وهذه كانت مرحلة في السبعينيات والثمانينات، ثم مؤخرا منذ حوالي سبع سنوات بدأت أدرس كيف أعيد الكنيسة إلى وضعها الأصلي بقدر الإمكان، وبالطبع لم يكن في إمكاني إزالة الدور الثاني لأنه لا طائل من إزالته ولن نتمكن من إعادة وجود السقف الصخري الأصلي.
لكن نتيجة إستعانة الأباء الأساقفة السابقين بعمالة غير فنية، فكان هناك الكثير من الضرر الناتج فيما تم تنفيذه وقتها، فاحتجنا عمل إحلال كامل لكل ما وضعوه في الكنيسة، وهذا تم طبقاً لدراسات هندسية بمكتب متخصص معماري وإنشائي ومتخصصين كهرباء وميكانيكا، وعلى مدى خمس سنوات كاملة تم تنفيذ المطلوب.
لم تكن الدولة قد وضعت خطة بعد لتطوير مسار العائلة المقدسة، وقت ما بدأنا نحن في العمل على هذا المشروع، من أجل تطوير وترميم كنيسة العذراء مريم كأحد النقاط على مسار العائلة المقدسة.
وأيضا لم يكن هناك أماكن ضيافة في المنطقة لاستيعاب الزائرين، لذا قمت ببناء أكثر من مبنى – حوالي أربعة – تستوعب مئات الاشخاص الراغبين في الإقامة وأخيراً افتتح فندق العائلة المقدسة وهو يتسع لمئة شخص.. وبشهادة الزائرين قالوا أننا هنا جمعنا ثلاث عناصر صعب جمعهم في مكان واحد: الريف ومنظر الزراعات الموجودة تحت الدير، والفندق الحضري والأثر الديني الروحاني.. وكل هذا في حضن النيل.
مطران سمالوط وطحا الأعمدة
أنبا بفنوتيوس بقوم بتدشين حجاب الهيكل الأوسط
كيف تم التعاون ما بين المطرانية والدولة في إحياء بقعة أثرية مهمة على مسار العائلة المقدسة؟
عندما أعلنت الدولة عن مشروع مسار العائلة المقدسة، واهتمت الكنيسة داخل مصر وكنيسة الفاتيكان بالأمر، ووضعت الدولة خطط لتنشيط السياحة على نقاط المسار، ومن هنا مهدوا طريقاً من بحري قرية دير جبل الطير حتى الكنيسة، وأيضا مهدوا طرق من الطريق الصحراوي الشرقي إلى الدير والكنيسة، وعملوا جدارية فوق المباني المؤدية لشارع الكنيسة، وأقاموا بوابات للمكان.
أيضا تم تنفيذ محور سمالوط الذي افتتح من بضعة شهور، وهذا الكوبري يربط الصحراوي الشرقي بالصحراوي الغربي بحيث أن أي زائر من أي من الطريقين يصل الدير في دقائق عديدة. وبسبب الخطة العامة لتطوير شبكات الطرق في مصر كلها، إستفاد الدير من هذا التطوير وهذا المحور الجديد.
ولأن المطرانية تساند الدولة، قامت بترميم كنيسة العذراء مريم الأثرية بدير جبل الطير على نفقتها الخاصة والتي كلفت الكنيسة عشرات الملايين من الجنيهات، فحبنا للوطن والكنيسة وتقديراً لقيمتها الروحية والأثرية جعلنا نقدم على هذه الخطوة.
ولمراعاة زوار المكان أيضا تم عمل الفندق بعشرات الملايين من الجنيهات، لكي نصل به لهذا المستوى الحضاري المتميز والذي لا يقل عن أي فندق في مصر أو خارجها. ونرى أن نزلاء الفندق في الشهور الماضية، كانوا من ضمنهم سفراء عدد من الدول وكذلك رئيس دولة الفلبين السابقة، كلهم كانوا يمدحون المستوى المتميز للفندق.
وبادرت باقتراح للسيد اللواء أسامة القاضي محافظ المنيا، أنه يمكن لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يشرفنا في دير العذراء جبل الطير لإطلاق مشروع العائلة المقدسة للعالم عبر تقنية الفيديو كونفرانس من فندق العائلة المقدسة وفي إحدى أهم نقاط المسار.. ومازلت منتظر رد الدولة لهذه الدعوة..
وطني تحاور نيافة الأنبا بفنوتيوس
نيافتك دائما تقدم نموذج متميز للتنمية وقدمت نقلة ملحوظة في سمالوط، نحب نعرف بعض الإنجازات التي اهتميت بها؟
خلال مسئوليتي في هذا الإيبارشية، كان اهتمامي في مجالات العلاج والصحة والتعليم والتنمية بأنواعها المتعددة وخلق فرص العمل، ومن يبادر بالإعجاب بهذا الإنجاز، أقول لهم لا يوجد ما يدعو للإعجاب لأن هذا واجبنا فالكنيسة كلفتنا بهذه المهام وأعطتنا مسئولية خدمة الشعب.. وخدمة الشعب ليست فقط وعظ من على المنابر، ولكن أيضا التنمية الشاملة لكل المكان الذي نكون مسئولين عنه.
وربنا وفقني واستخدمني عبر السنوات الماضية التي توليت فيها هذه المسئولية من يونيه 1976 حتى اليوم، أن مستشفى الراعي الصالح التي قمنا بإنشائها (1992م) تقدم مستوى علاجي جيد لسكان المنطقة والمناطق المجاورة. وبها كل الأقسام المتخصصة امتداداً لجراحة القلب المفتوح وجراحات العمود الفقري وعمليات تغيير المفاصل وكذلك علاج مرض السرطان جراحياً وكيموياً وإشعاعياً، وكذلك غسيل الكلى وجراحات العيون وحضانات الأطفال. وتم افتتاح كل هذا عام 1992م وكان حجمه 10 آلاف متر مربع مباني على ستة أدوار ولكن مع وجود الاحتياج للمزيد من الخدمات تم عمل امتداد للمبنى بمساحة 10 ألاف متر مربع لمضاعفة حجم المستشفى وإضافة المزيد من الأجهزة الحديثة وجاري إفتتاح هذا الجزء من المستشفى بعد أسابيع قليلة.
أيضا الدولة نفسها سعت إلينا لإدراج نظام التأمين الصحي وعلاج على نفقة الدولة، فالمريض يدخل المستشفى ولا يدفع جنيه واحد ونحن نحاسب الدولة.
وفي مجال التعليم أيضا، وجدت حينما بدأت مسئوليتي في سمالوط أن هناك مستوى تعليم ضعيف وأنه يوجد احتياج للمزيد من المدارس، فتم إنشاء مجمع مدارس العهد الجديد وافتتحت من 15 سنة لقبول التلاميذ وتخرج منها أجيال ودخلوا الجامعات، وحالياً المدرسة بها 2000 طالب. وأثبتت هذه المدارس تميزها وحصلت على شهادة الأيزو في جودة من سنوات مضت وخريجيها يدخلون كليات القمة ومنهم من حصل على المركز الرابع على الجمهورية في نتيجة الثانوية العامة في العام الماضي.
ومن خلال مشروعات المطرانية وفرنا فرص عمل لعدد 2000 موظف، وبالطبع كل هذه المشروعات تخدم المصريين جميعاً من المسيحيين والمسلمين، من المستخدمين والعاملين أيضا، فيتم اختيار الكفاءات من العاملين أي كانت ديانتهم أو انتمائهم.
وهناك أنشطة أخرى من أندية لخدمة شبابنا وأولادنا ومشروعات زراعية للتنمية الزراعية لخدمة شعب ومنتجات زراعية تقدم للمجتمع من خلال منافذ للبيع التابعة لنا.
ما رؤية نيافتك لنقطة دير جبل الطير بعد إفتتاحك لكنيسة العذراء الأثرية؟
من ناحية تخطيط المنطقة الأثرية في محيط كنيسة العذراء بدير جبل الطير، فكرنا منذ سنوات بعيدة أنه لا يليق أن يكون بالقرب من الكنيسة مدافن، فقمت بشراء 22 فدان من الدولة قبلي القرية على الجبل وإحاططها بسور وقمت ببناء مدافن فيها بمستويات متعددة لتناسب الأسر المختلفة، وتم نقل الكثير من المدافن إليها تمهيداً لإخلاء الجبانة القريبة من الكنيسة. وعندما يتم إخلاء هذه الجبانات تؤول للدولة لكن في النهاية ستكون ساحة جميلة أمام الكنيسة مثل ساحة القديس بطرس في إيطاليا..
ومن ضمن الحلم، من ناحية التعليم، قمت ببناء مدرسة جديدة في دير جبل الطير وننتظر من الدولة ترخيصها لأنها على أملاك دولة ونحن نطلب شراء الأرض، لخدمة قرى شرق النيل بعضها يحتاج إلى منابر تعليم وغير متاح لديهم.
ومشروع أخر نتطلع إليه وهو شراء أرض بحري قرية دير جبل الطير وهي أربع فدادين لحل أزمة ساحة المولد.. ففي مولد العذراء مريم تكون الساحة مقتظة بالباعة، لذا أطلب شراء هذه الأرض من الدولة حتى يمكننا إقامة المولد السنوي فيها ويبقى المكان الحالي وسط البيوت محتوي على مظلات ومقاعد لزائري الدير طوال العام وفي وقت هذا الموسم.
ومن المشروعات المطروحة أيضا والملحة لموافقة الدولة، مشكلة الصرف الصحي، حيث أن الصرف الصحي في جبل الطير يدمر الجبل، لأن الجبل من الحجر الجيري مثل جبل المقطم. والدولة أدركت هذا مؤخراً وشرعت من سنوات قليلة لعمل صرف صحي مناسب للقرية كلها لكن المشروع توقف بسبب التمويل، ولذا نرجو من الدولة أن تستكمل تمويل مشروع الصرف الصحي لجبل الطير حتى لا يدمر الجبل من صرف البيوت الكائنة فيه ضمن مبادرة “حياة كريمة”.
والجدير بالذكر أن جهود الدولة تساندنا في المنطقة دائما، ففي السبيعنيات عندما أتيت إلى سمالوط كان السلم الصاعد إلى الدير عبارة عن منحدر وليس به درج، وكل مسافة درجة أو إثنين، وفي عام 1978م قمت بتحويل هذا المنحدر إلى سلم فعلي وقمت بصب خرسانة وعملت سور له من الناحيتين، وهذا السلم تكفلت به المطرانية وقتها، ولكن مع مرور الزمن ووجود صرف صحي يمر عليه، تآكلت الدرجات، لكن مشكورة جهود الدولة التي اهتمت ويتم الأن إعادة إصلاحه على نفقة الدولة.
كنيسة العذراء بدير جبل الطير بعد الترميم الأخير
كنيسة العذراء بدير جبل الطير قبل الترميم الأخير