يتساءل الكثيرون كل عام في مثل هذا اليوم، بالتزامن مع كواليس أخر ساعات السيد المسيح على الأرض، وخيانة تلاميذه العظيمة له، عمَّ إذا كانت الكنيسة تبالغ في جسامة جُرم وخطية يهوذا الإسخريوطي، التلميذ الذي خان وباع سيده وسلمه لأعدائه بقبلة.
وبالتزامن مع “خميس العهد” وليلة الجمعة العظيمة حسب ترتيب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حلل الأنبا بولا مطران طنطا للأقباط الأرثوذكس، موقف يهوذا من جميع الزوايا بغرض الخروج بدروس مستفادة تستحق أن يتأملها كل إنسان.
وقال الأنبا بولا مطران طنطا وتوابعها للأقباط الأرثوذكس، في تصريحات لـ “الدستور” إن خطية يهوذا الإسخريوطي حقًا جسيمة، وترجع خطورتها إلى عدة أسباب، كلٍ منها جدير للتوقف أمامه والتدبّر فيه.
خطية جسيمة لأنها من أحد القيادات
قال الأنبا بولا، إن يهوذا الإسخريوطي كان أحد التلاميذ الإثنى عشر الذين دعاهم السيد المسيح للخدمة معه، فكان لهم جميعًا مكانة عالية وتقدير خاص لدى الناس. ولأنه كان كبيرًا، صارت خطيته كبيرة، لافتًا أن هكذا كل إنسان له مكانة ومسئولية مثل، رجل الدين في مجتمعه، الأب والأم وسط أولادهم، رؤساء العمل مع مرؤوسيهم. فكل من له مركز قيادي في المجتمع في الأسرة في العمل، إن أخطأ، يُخطئ عن معرفة ويتسبب في عثرة من حوله.
خطية كبيرة لأنه هو الذي سعى إليها
وأشار الأنبا بولا، إلى أن “يهوذا” هو من سعى لأن يتواصل مع رؤساء كهنة اليهود كي يُسلم السيد المسيح، وليس العكس.
وتابع: "روى لنا إنجيل لوقا أن يهوذا قد مضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم".
أما إنجيل متى فذكر أنه "ذهب واحد من الإثني عشر الذي يدعى يهوذا الإسخريوطي، إلى رؤساء الكهنة وقال ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم ؟.
خطية كبيرة لأنها كانت بتخطيط منه لتسهيل مهمة الأعداء
وأكد الأنبا بولا، أن الأمر لم يكن سهلاً على الإطلاق. كان المسيح قد دخل منذ أيام إلى مدينة أورشليم المقدسة وقد خرج جميع أهلها إلى استقباله كالملوك، فكانت شعبيته لا تسمح أبدًا لرؤساء كهنة اليهود أن يقبضوا عليه وسط الشعب جهارًا نهارًا لذلك حين ذهب يهوذا إلي الكهنة، عرض عليهم الخطة المناسبة لتنفيذ مطلبهم.
وتابع: إنجيل لوقا يذكر " كان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه، لأنهم خافوا الشعب... وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجميع ". بينما إنجيل متى يقول، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه.
خطية كبيرة لأنه كان سبباً في سعادة الأعداء
ويشرح الأنبا بولا: "حضر يهوذا المواجهات المتصاعدة التي حدثت بين السيد المسيح ورؤساء كهنة اليهود والكتبة والفريسيين بعد طرد باعتهم من الهيكل وتوبيخهم علنًا أمام الناس لريائهم وحرفيتهم وتظاهرهم بالورع، دون قلب نقي. فرأى يهوذا عداوة الكهنة والكتبة والفريسيين للسيد المسيح، لكنه وضع يده في يد عدو سيده، ويأكد على ذلك أنجيل لوقا حين قال "ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة ".
خطية أُتيحت لها فرصة زمنية كافية للتوبة
ويقول مطران طنطا بعمقه لدراسة الموضوع، "أن نظرنا إلى بطرس ويهوذا الإسخريوطي، كلاهما تلميذان للسيد المسيح، كلاهما أخطئا في حق المعلم، وكلاهما حذرهما المسيح قبل فعلتهما، لكن بطرس كانت خطيته وليدة اللحظة، رد فعل بشري لإنسان تملّكه الخوف على حياته، أما يهوذا فكان مُصرّاً على خطيته التي سعى إليها وخطط لها عن سبق إصرار وترصّد".
خطية كبيرة لأنه سبقتها إنذارات كثيرة
يضيف الأنبا بولا، يُفصّل الإنجيل المرات التي حذّر فيها السيد المسيح تلميذه يهوذا على جُرمه الذي كان قد انتوى فعله، فيقول يوحنا الإنجيلي، "بعد غسل أرجل التلاميذ قال يسوع وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم لأنه عرف مسلمه "
أثناء العشاء الأخير في يوم خميس العهد، يقول أنجيل متى: " إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد ! "، ومع ذلك لم يستفذ يهوذا من كلام السيد المسيح.
ثم ضيق السيد المسيح الخناق على يهوذا تلميذه حتى يفيق ويرجع عن خطيته، قائلاً أن واحدًا منكم يسلمني كما ذكر إنجيل متى، ثم يضيّق عليه الخناق أكثر، فيقول، " الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني، كما في متى أيضًا.
وفي نهاية الأمر يكشف السيد المسيح التلميذ الخائن ويقول، هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه، فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا ، هكذا قال يوحنا في إنجيله. ومع كل هذا لم يتراجع يهوذا، بل وبجرأه سأل السيد المسيح، قائلاً، "هل أنا يا سيد؟"فأجاب السيد وقال له، "أنت قلت". وأيضًا لم يتب، ونتيجة لعدم التجاوب، "بعد اللقمة دخله الشيطان"، مثلما وصف يوحنا في أنجيله.
خطية عظيمة لأنها خيانة لمن أحبه
وقال الأنبا بولا، إن السيد المسيح أحب يهوذا فاختاره تلميذاً رغم عدم استحقاقه، فقد أحبه وأسند له الصندوق رغم عدم أمانته، أحبه فلم يوبخه، أحبه فغسل أقدامه مع باقي التلاميذ بالرغم مما فعله، أحبه فأشركه معه في تقديم خروف الفصح بالرغم مما معرفته بما فعله وما سيفعله، أحبه فحاول تحذيره مرات عديدة ليجنبه فعل الشر. أحبه فقال له وقت خيانته: "يا صاحب أبقبلة تسلم إبن الإنسان؟"
ولفت مطران طنطا وتوابعها: "من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يقر بها ويتركها يُرحم" بدأت الخطية بالطمع ولم يكشفها، فتطورت إلى خطية سرقة ولم يقر بها، حتى تحولت خطية خيانة ببيع المعلم بثلاثين من الفضة. مؤكدًا أن الخطية تبدأ صغيرة وبدون توبة تكبر، الخطية تبدأ وحيدة وبدون توبة تكثر وتصير خطايا.
خطية كبيرة بسبب الغش والخداع
ويستكمل الأنبا بولا حديثه، يصف أنجيل مرقس خطة الخيانة الممزوجة بالغش والخداع ويقول "وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلاً، الذي أقبله هو هو أمسكوه، وامضوا به بحرص " لافتًا، فكان يهوذا أكثر حرصاً من الأعداء أنفسهم، وقد خطط للأمر جيدًا وحدد لكل واحد دوره في المشهد، وتقدم إلى يسوع وقال: " السلام يا سيدي ! " وقبله . " بحسب ما ذكر متى.
خطية بلا مغفرة لأنها بلا توبة
ويختتم الأنبا بولا تحليله لنا عن التلميذ الخائن ويقول، بالرغم من أنه قال " قد أخطأت إذ أسلمت دماً بريئاً " ندم ولم يتب، ولم يحاول إصلاح الخطأ، ولكنه قد فقد الرجاء فانتحر فعالج خطية بخطية يستحيل أن يتوب عنها، وذلك على عكس بطرس الذي أنكر المسيح ثلاث مرات بل ولعنه أمام الناس، لكنه أخيرًا ندم وحوّل ندمه إلى توبة فخلُص وغفرة له خطيته وصار أحد أعظم المبشرين