
في الوقت الذي كان فيه السودانيون يترقبون موسم أمطار اعتياديًا، باغتتهم موجات فيضان غير مسبوقة ناجمة عن تدفقات مفاجئة من سد النهضة الإثيوبي، فاجتاحت القرى والمدن وأغرقت آلاف المنازل وأتلفت الطرق والمزارع والبنية التحتية.
هذه الكارثة، التي وصفتها لجنة الطوارئ في جنوب ولاية الخرطوم بأنها "غير متوقعة وغير مسبوقة"، فتحت الباب أمام تساؤلات خطيرة حول مستقبل الأمن المائي في السودان ومصر، في ظل استمرار أديس أبابا في نهجها الأحادي بشأن تشغيل السد وتصريف مياهه دون تنسيق أو إشعار مسبق.
تواصل "الدستور" مع الصحفية السودانية إسلام أمين عضو بلجنة الطوارئ في جنوب الخرطوم لتقف من خلالها على م آل إليه الوضع هناك بعد اجتياح فيضان سد النهضة المنطقة.
بداية.. كيف تصفين ما حدث في الأيام الماضية من فيضانات ضربت السودان؟
ما حدث هو فيضان مفاجئ وغير متوقع ناتج عن تصريف غير منسق لمياه سد النهضة الإثيوبي، غمرت المياه مناطق واسعة في ولايات النيل الأبيض، نهر النيل، وجنوب الخرطوم، وتسببت في تدمير ما يقارب 70% من البنية التحتية والمرافق الحيوية، شهدنا انهيارًا للطرق، وغرقًا للمنازل، وانقطاعًا للخدمات الأساسية، إنها كارثة إنسانية حقيقية بكل المقاييس.
ما حجم النزوح الذي خلفته هذه الكارثة؟
النزوح كان واسعًا ومؤلمًا، مئات الأسر أُجبرت على مغادرة منازلها إلى مناطق أكثر أمانًا، رغم أن الكثير منهم كانوا قد عادوا مؤخرًا ضمن برنامج العودة الطوعية، على سبيل المثال، في منطقة ود رملي شمال الخرطوم، تم إجلاء أكثر من 500 أسرة بجهود الدفاع المدني، كما شهدت منطقتا جبل أولياء والشجيلاب دمارًا كبيرًا، وغمرت المياه مساحات شاسعة منها.
هل يمكن القول إن منطقة “ود رملي” كانت الأكثر تضررًا؟
نعم، ود رملي كانت من أكثر المناطق التي تعرضت لأضرار جسيمة، فبحكم موقعها كمخرج طبيعي للسيول، لم تتمكن من استيعاب كميات المياه الضخمة التي تدفقت من النيل الأزرق، هذه المرة كانت السيول غير عادية على الإطلاق، إذ تجاوزت قدرة الأرض على التصريف، ما أدى إلى غرق شبه كامل للمنطقة.
ماذا عن ولايتي النيل الأبيض والنيل الأزرق؟
في النيل الأبيض، غرقت مناطق واسعة مثل الجبلين وكوستي، بينما شهدت شندي إغراقًا جزئيًا، حتى الآن، لا توجد إحصاءات دقيقة للأضرار، لأن الوضع لا يزال قيد التقييم، أما في النيل الأزرق، فإن الأمر أكثر تعقيدًا، لأن النهر هو المصدر الرئيسي لسد النهضة، ويستقبل تصريفًا سنويًا ضخمًا يتجاوز 750 مليون متر مكعب، أي اضطراب في تدفق المياه من إثيوبيا ينعكس فورًا على السودان، بل ويمتد تأثيره إلى مصر أيضًا.
هناك مخاوف متزايدة من انهيار سد الروصيرص.. ما مدى صحة هذه المخاوف؟
بالفعل، هناك قلق مشروع، فسد الروصيرص مصمم لاستيعاب 600 مليون متر مكعب، بينما وصلت كميات المياه الواردة إليه هذا العام إلى 850 مليون متر مكعب، هذه الزيادة تشكل ضغطًا خطيرًا قد يهدد سلامة السد، خاصة في ظل غياب التنسيق المسبق حول تصريف مياه سد النهضة، أي خلل في التوازن المائي بين السدين يمكن أن يؤدي إلى كارثة بيئية وإنسانية غير مسبوقة في السودان.
ماذا عن الآثار الصحية والبيئية للفيضانات؟
بعد انحسار المياه، تبقى المستنقعات المائية التي تشكل بيئة خصبة لتكاثر البعوض وانتشار الأوبئة مثل حمى الضنك والملاريا، نحن نواجه خطرًا مزدوجًا: الكارثة البيئية من جهة، والتداعيات الصحية من جهة أخرى، ومع استمرار الحرب والنزوح، يصعب تنفيذ حملات رش أو تطهير فعالة، رغم الجهود الشعبية في بناء سدود ترابية للحد من انتشار المياه.
برأيك، ما الذي تكشفه هذه الكارثة عن أزمة سد النهضة؟
الكارثة الحالية كشفت عن مدى خطورة إدارة سد النهضة دون تنسيق إقليمي، إن استمرار إثيوبيا في التصريف العشوائي ورفضها توقيع اتفاق قانوني ملزم يعني أن السودان ومصر سيظلان في دائرة الخطر الدائم، هذه ليست أزمة فيضان عابرة، بل إنذار مبكر لانفلات مائي قد يعصف بأمن المنطقة إذا لم يتحقق التعاون الحقيقي بين دول حوض النيل.
كيف يمكن أن تنعكس هذه الأزمة على مصر؟
مصر أيضًا معنية بشكل مباشر، فالنيل الأزرق يمدها بـ85% من احتياجاتها المائية، أي خلل في تدفق المياه من السودان نتيجة الفيضانات أو انهيار البنى المائية سيؤثر على السد العالي ونظام الري المصري، ما يحدث اليوم في السودان قد يتكرر غدًا في مصر إذا استمر التعنت الإثيوبي، الأمن المائي في وادي النيل أصبح مسألة مصير مشترك لا تحتمل العبث أو التجريب.
ما الرسالة التي توجهينها في ختام هذا الحوار؟
الرسالة واضحة: لا يمكن ترك إدارة المياه رهينة للقرارات الأحادية، فيضان سد النهضة ليس شأنًا إثيوبيًا داخليًا، بل قضية حياة لملايين البشر في السودان ومصر، إنقاذ الأرواح لا يكون بالتصريحات، بل بالتنسيق والشفافية والتفاهم بين الشعوب قبل الحكومات.