هناك أشخاص علاقتهم بالتاريخ مجرد تاريخ الميلاد والوفاه، وهناك أشخاص آخرون يرتبط بهم التاريخ بأسمائهم وتأثيرهم في مجرى الأحداث والأشخاص. هنا يأتى قداسة البابا شنودة الثالث بطريرك الإسكندرية والكرازة المرقسية الراحل كصانع للتاريخ، حيث إن دور البابا شنودة لم يكن تأثيره محليا بل وعالميا.. وإذا اكتب عن قداسة البابا أقف أمام شخصية عظيمة بالفعل حتى وإن اختلف معه في بعض الأمور الا ان التحليل الموضوعى لشخصيته الفريدة تجعلنا نقف مشدوهين أمام شخصية عظيمة استطاعت أن تترك بصمات لا تمحى من ذاكرة التاريخ الإنسانى والكنسى.
المتابع لشخصية البابا يرى أن هناك عوامل عديدة عملت على تكوينها بهذا الشكل مما كان له أثر بالغ في تأثيره وتعامله مع الأحداث حيث لعب المكان والزمان والرموز الوطنية دورا كبيرا في تشكيله.
البدايات
ولد نظير جيد في قرية فقيرة في صعيد مصر في بيئة محافظة دينيا، وكان للكنيسة تأثير كبير في التكوين النفسى والروحى له، من الواضح التصاقه الكبير بالكنيسة منذ الصغر. من الواضح، حسب معظم راغبى الحياة الرهبانيه، أنه رأى أن صراع الإنسان مع الحياة لا فائدة له حتى وان حقق الإنسان كل أمانيه في صراعه مع الحياة فإن هذا لا يؤدى للشبع والسلام النفسى، فاختار طوعا الخروج من الحياة الجسديه إلى إطلاق العنان لعالم الروح داخله فاختار الرهبنة، حيث حياة التأمل والبحث عن الله. فالحياة بالنسبة له غربة مؤقتة يعيشها الإنسان لينطلق لحياة أبدية أخرى.. وهنا كتب يقول:
يا صديقى لست ادرى ما انا أو تدرى انت ما انت هنا
انت مثلى تائه في غربه وجميع الناس ايضا مثلنا
نحن ضيفان نفضى فتره ثم نمضى حين ياتى يومنا
لم يكن البابا منغلقا في عالم الكنيسة فقط بل إنه تأثر بالحياة السياسية ورموزها آنذاك، حيث كان كتب شعرا مدافعا عن مكرم عبيد حينما اختلف مع مكرم النحاس باش.
صار نظير جيد راهبا وأمضى معظم سنوات حياته متأملا في الصحراء ليخرج منها أسقفا للتعليم ثم بطريركا للكنيسة القبطية، حيث صار البابا شنوده الثالث.. تولى البابا مسئولية الكرسى المرقسى في وقت لن تكن الكنيسة في أفضل أحوالها فقام بمشروع إصلاحى يقوم على تعميق الهوية الفبطيه من خلال إحياء تراث آباء الكنيسة فارتبط القبطى بكنيسته وصارت القبطية الأرثوذكسية أكثر من مجرد ديانة بل هوية ومشروع لبناء الشخصيه المسيحية، فانتشرت الكنيسة والأديرة والمدارس في ربوع الكرة الارضية وصارت الكنيسة القبطيه كنيسة عالميه. وصار البابا شنوده هو المثال الأعلى للأقباط حيث التف حوله الجميع.
كانت علاقة البابا شنودة بالطوائف المسيحية الأخرى ملتبسة، حيث كان يراها تهديد وجودى للكنيسة القبطية وكان يرى انها طوائف دخيلة على الهويه المصرية ولن يكتب لها النجاح فكان يهاجمها وفى نفس الوقت كانت هناك علاقة ودية على مستوى القيادات وأصبحت الكنيسة القبطية عضو بمجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالمى.
كان للبابا، عضو نقابة الصحفيين، دور وطني إزاء القضايا العربية، حيث رفض التطبيع مما كان احد أسباب حنق الرئيس السادات عليه ورفض زيارة القدس ومنع زيارة الأقباط للقدس تحت الاحتلال الإسرائيلى فلقب ببابا العرب.
كان البابا قلقا من تعاظم دور الجماعات الإسلامية في مصر، حيث إن مشروع هذه الجماعات كان مرتبطا بقمع الأقباط واسلمتهم، كان حريصا على السلام الاجتماعي ومحبا للروح المصرية الإسلامية السمحة وتجسد ذالك في علاقته بشيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوى.
وإذ نتذكر البابا شنودة الثالث ودوره الوطنى، يزيد إيماننا بمصر وقدرتها على تقديم شخصيات تصنع التاريخ في مجالات مختلفة.