بقلم فاطمة ناعوت
تحيةَ احترامٍ للنيابة العامة، صوتِ الشعب، وللنائب العام، ضميرِ المصريين، الذي سارع بالتحقيق في قضية الشهيد/ محمود البنّا، الذي اعتبرته كلُّ أمٍّ مصرية، وكلُّ أبٍ، ابنًا لهم. وخالص مواساتى للأمّ والأب الكريمين اللذين أنشآ ابنهما متفوقًا خلوقًا، فشهد له الجميعُ، ربط اللهُ على قلبيهما.
وقد تكونَ نجدةُ الملهوف من البديهيات التي يأتيها الإنسانُ دون تفكير، ليستحق لقبَ إنسان. وهو ما يحدث دائمًا في مصر، المشهور شعبُها بالشهامة. ولكنَّ جرائمَ مؤلمة تحدث أحيانًا لذوى المروءة، جرّاء البلطجة وانعدام الخلق، تستقطبُ الأضواءَ وحديث الناس، ترمى بظلالِها القاتمة على القلوب، فيترددون في نجدة المستغيث خوفًا من مصير شهداء الشهامة والنبالة. وهذا خطأ. لأن النبلَ هو القاعدة، والإجرام هو الاستثناء، فلا تكفّوا عن توجيه أولادكم أن يكونوا نبلاءَ ذوى مروءة، فتلك صفات الإنسان.
لهذا، أناشدُ المسؤولين إطلاق اسم الشهيد مينا سمير على إحدى مدارس محافظة أسوان، وإطلاق اسم الشهيد محمود البنّا على إحدى مدارس محافظة المنوفية.
فأما مينا سمير فهو الشابُّ الطيب الذي طارد لصًّا اختطف حقيبة سيدة في السوق السياحى بأسوان العام الماضى، فعاجله اللصُّ بطعنةٍ، أَرْدَتْه شهيدًا كريمًا. وفى لفتة طيبة، عرض الشيخُ سعودى مرزوق، إمام مسجد منصور حمادة بأسوان، صورة الشهيد القبطى على شاشات المسجد، وخصص خطبة الجمعة عنه، حاثًّا المُصلّين على نجدة الملهوف ونُصرة المظلوم، واتباع قيم الشهامة كما يُعلّمُنا دينُنا الحنيف.
وأما محمود البنَّا فهو الشابُّ المحترم، ابنُ مدينة تلا، الذي أنقذ فتاةً من براثن شابٍّ مستهتر قبل أسبوعين، فأضمر الشريرُ له وتكالب عليه مع ثلاثة من الأشرار وانهالوا عليه طعنًا حتى أَرْدَوْه شهيدًا كريمًا، وصار حديثَ كلّ بيتٍ مصرى، وأصبح الثأرُ له من القتَلة مطلبًا شعبيًّا زلزل أركانَ المجتمع المصرى. وكانت النيابةُ العامة عند حُسن توقعنا، فسارعت بالتحقيق العاجل في الجريمة.
وفى يناير الماضى، فُجع المصريون في استشهاد سيد طه أبودنيا، كوّاء حى البساتين، الذي أنقذ فتاة مسيحية تحرّش بها أحدُ الجبناء، فما كان من الجبان إلا أن عاجل الكوّاءَ بطعنة، أَرْدَتْه شهيدًا كريمًا.
أمثلةُ فرسان الشهامة لا تُعدُّ ولا تُحصى في مجتمعنا الطيب، ولا تستوعبها مجلداتٌ وصحائفُ. والقِصاصُ العاجل من القتَلة والبلطجية هو الضامنُ لئلا تختفى الشهامةُ من مجتمعنا. لكى يكونوا عبرةً ورسالة علنية لردع المجرمين ومشاريع المجرمين. ومن قبل ومن بعد، يجب إعادة بناء النشء المصرى على قيم الأخلاق في الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام.
وأرجو من المُشرِّع أن يُعيد النظر في الحدود الفاصلة بين الطفولة والحداثة والنضوج. وفى سن 18 عامًا، الفاصل بين الحدث والبالغ، نظرًا للتغيّر الشديد في المجتمع المصرى بعد الطفرة التكنولوجية التي تُعجّل من وعى الطفل في عُمر مبكّر عن سابقه قبل نصف قرن، وقبل عقد وعقدين من الزمان، فالصبىّ الذي يصاحب الفتيات ويتعاطى المخدراتِ ويرسلُ لضحاياه رسائلَ تهديد بالقتل، ثم يُنفِّذ جريمتَه مع سبق الإصرار والترصّد، بالتأكيد ليس طفلًا وليس حدثًا، بل ناضجٌ ومجرم وقاتل.
وعلّنا لم ننسَ بعد الطفل القاتل الذي ألقى الطفلة زينة من حالق بعد محاولة اغتصابها! مَن يغتصِب ليس طفلًا! ومَن يقتل بقلب بارد ليس بالتأكيد طفلًا!
يحكى لنا المأثورُ القديمُ عن فارس كان يسير في الصحراء بحصانه، فصادف رجلًا تائهًا يتعثّر في أسماله وظمئه وجوعه. قرّر الفارسُ النبيل أن ينقذ التائهَ من الموت المُحقق، فأركبه حصانَه ليوصله إلى المعمورة، فما كان من الرجل التعس إلا أن لكز الفرسَ بمهمازيه وجرى به بعيدًا وهو يضحك من غفلة الفارس، فهتف الفارسُ: يا صاحِ، خُذِ الحصانَ، إن شئتَ، ولكن لا تَحْكِ لأحد ما كان بيننا، فأجاب اللصُّ مُقهْقِهًا: هل تخشى أن يُعيّرك العربُ لبلاهتك؟!، فأجاب الفارسُ: لا! بل أخشى أن تختفى الشهامةُ من أرض العرب بعدما يعرفون ما جرى منكَ ومنى، فأعاد اللصُّ الحصانَ للفارس، وندمَ واعتذر. خافَ اللصُّ أن يختفى النبلُ من أرض العرب، فكثيرون على قيد الحياة، قليلون على قيد الإنسانية. وأرجو ألا يختفى النبلُ من أرض مصر. طوبى لفرسان السماء وفرسان مصر. ودائمًا: الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن.