
نظم مركز “بس لمباس” للدراسات القبطية بكنيسة السيدة العذراء مريم بمهمشة، برئاسة وحضور نيافة الحبر الجليل الأنبا طمارتيروس أسقف عام منطقة شرق السكة ، الحديد اللقاء الشهري المعتاد حيث استضاف المركز الدكتور كمال يوسف الدويني أستاذ العلوم السياسية المتفرغ حيث ألقى محاضرة بعنوان
ملامح العلاقة بين بعض السياسات الحاكمة والكنيسة في القرن التاسع عشر(1899:1801)م
وقام بالتنوية عن المحاضرة منسق اللقاءات بالمركز المهندس اشرف موريس .
وفي البداية، تكلم الدكتور كمال يوسف الدويني أستاذ العلوم السياسية المتفرغ حيث قال:
يعبر عنوان المحاضرة عن ملامح العلاقة بين بعض السياسة الحاكمة ومجتمع الكنيسة، وبجذور الاجواء السياسية التي أحاطت وأثرت في تاريخها، وتفاعلها داخل المجتمع خلال حقبة معينة؛ تم فيها تغير المفهوم الديني والسياسي؛ لأن الفساد شخوص وليس نصوص، والمسيحية ديانة مثالية، فلا يوجد فساد في المسيحية، ولكن يوجد بعض المؤسسات الكنيسية التي ينبغي لها الاصلاح لرفع مستواها لمستوي كنيسة المسيح السمائية، وبالتالي ما أفرزته من وعي وتأثير للقرارات علي العقول الحديثة كسياسة حاكمة لها النفوذ والحكم والقرار، والكنيسة كمضمون عبر استعراض لآراء بعض العلماء والباحثين السياسيين المحللين كلا في تخصصة
فابرغم شدة الاضطهاد الذي عاشت فيه الكنيسة القبطية، منذ منتصف القرن الأول الميلادي، وقساوه قلب بعض قساوستها كان يتم تعذيبهم ونفيهم على يد أخونهم المسيحيين، بعد انشقاق مجمع خلقدونية عام 451 م، وحتى فتح العرب لمصر عام 641م، ولتأكيد حبهم في الصليب، اتّخذوا تقويمًا، يطلق عليه تقويم الشهداء 284 م، لإحياء ذِكرى شهداء الإيمان في عهد الإمبراطور الرومانى دقلديانوس، وما يزال هذا التقويم يستعمله المُزارعين في مصر؛ لكونه تقويم أجدادهم لتتبع تغيرات الفصول الزراعية، وكذلك في كتابه الفصول الذي تُستخدم في القداسات والمناسبات الكنيسية.
ويضيف الدكتور كمال يوسف الدويني لم تأخذ الكنيسة القبطية أي سُلطة سياسية، ولم تقم بمقاومة السُلطات أو الغُزاة، ولم تسمح لنفسها بالدخول في الحُكم بمصر أو أي مكان بالعالم؛ وبالتالي، نجد بعض الجذور التي توضح مفهوم كلا منهم من خلال معتقداته وكيفية تطبيقها علي ارض الواقع فكانت السياسة تعني
قديماً ما قبل الميلاد، يكتب اليونانيين القدماء أمثال: سقراط (399-469 ق.م): ”أن السياسة هي فن الحكم، والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن“، بينما يري افلاطون (347-428 ق.م): ”أن السياسة هي فن حكم الإفراد برضاهم، والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن“، وبالتالي فهي مشتقة من كلمة بولس اليونانية وتعني الدولة المدنية أو القلعة في قلب المدينة والتي تتكون من ثلاث كلمات لاتينية هي
تعني المدينة، وهي الوحدة السياسية في اليونان القديمة؛ لأن اليونان آنذاك كان يطلق عليها دولة المدينة.
وتعني الأشياء السياسية والمدنية النظرية: الدستور، الحكومة، السيادة.
وتعني السياسة كفن أو كممارسة يقوم بها السياسيون.
السياسة في الحكم الروماني تمثلت بمفهوم الحق الإلهي لقرونٍ من الزمن، استخدم بعضهم هذا المفهوم أحيانًا بهدف تدعيم الفكرة القائلة بأن الملك يحكم كلًّا من مملكته والعبادة الواقعة داخل حدودها، إذ تُعرف هذه النظرية باسم قيصر وبابوية؛ لأن الكنيسة الغربية تؤمن بعقيدة راسخة فخرها الحكم والسيطرة، والبابا يملك السلطة المطلقة على الكنيسة والسلطة غير المباشرة على الدولة بصفته نائب المسيح على الأرض.
اما السياسة في المفهوم المسيحي القبطي يقول الدكتور كمال يوسف الدويني هي الاضطهاد، والصليب هو فخرها الحقيقي، والذي تم على يد كل حُكّام مصر تقريبًا؛ لأيمانها الراسخ بوجود حياه الأنسان المؤقتة علي الأرض، والحياه التي لا تنتهي بالسماء، فعقيدتها مبنية على قول الرب يسوع نفسه: ”أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله“. (مت21:22)، (مر12: 13-17)، (لو20: 20-26)، وهو الفصل بين الدين والدولة، وكذا كلام السيد المسيح واضح في: ”رُدّ سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف، بالسيف يهلكون“ (مت52:26)، فلم يتم التحَكُّم فيها.
السياسة الحاكمة في قاموس المعاني عربى – فارسي تعنى سياسات الحكام أي قرارات الحاكم في زمن معين.
السياسة من المنظور الإسلامي تعني: رعاية شئون الأمة بالداخل والخارج وفق الشريعة الإسلامية، (مصطلحات- فقهية).
وأيضا هي جزء لا يتجزأ من الإسلام، ولا فرق في الإسلام بين السياسة والدين، (المعجم: عربي عامة).
فعرّف ابن خلدون السياسة الشرعية بأنها: ”حمل الكافة علي مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم بالدنيا والأخرة“، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ”من مقدمة ابن خلدون“، (ص 97).
بشكل عام يمكن القول إن السياسة في اللغة العربية تشير إلى معنى الرياسة، القيادة، الفطنة، الذكاء.
عرفت المعاجم الفرنسية علم السياسة بأنه: ”العلم الذى يقوم بدراسة المجتمعات البشرية أو الإنسانية“، أي علم حكم الدول.
عرفت جامعة كولومبيا علم السياسة بالعلم الذى يقوم بدراسة الحكومات والمؤسسات وعدد من السلوكيات والممارسات التي يقوم بها السياسيون.
السياسة هى علاقة بين حاكم ومحكوم، وهي السلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية، فتعني القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل سواء أراد أو لم يرد، بإحتكارها وسائل الإكراه كالجيش والشرطة، ولكنها تحظي بالشرعية الشعبية والدولية.
خلال الفترة السابقة كثرت ثورة الكنيسة الغربية وبالتالي زاد جاهها، وسطوتها وسلطانها من كثرة الشبع، في حين أن كنيستنا بجوعها وفقرها قدمت الكثير من القديسين الشهداء علي مر تاريخها، فقدمت الأديرة والكتب والمؤلفات التي قضت علي الجهل والصلوات بالقداسات اليومية، وحينما بدأت كنائس الغرب تفيق من صراعها من الشبع والثروة تارة والانفجارات في داخلها تارة أخري، بحيث وجدت أنها فقدت تراثها، لم تجد من يمنحها الايمان السليم إلا الكنيسة القبطية، فسعت الكنيسة الأوروبية أخيرا إلى فصل الدين عن الدولة بعد خضوع الدولة لسلطان الكنيسة، ثم خضوع الكنيسة للدولة بعد صراعات كثيرة بينهما كقوانين تارة بالسياسة وأخرى بالدين.
ويقول الدكتور كمال يوسف كانت كنيستنا القبطية بعيدة عن السياسة فظلت محترمة نفسها على طول المدى، وخير دليل بقاءها حتى اليوم، تنعم في صِحّة وحِكمة تعاليمها وطريقها المسيحي المستقيم، الذي ظهر في تفاعلها مع الاحداث السياسية التي مرت بها فيما بعد، وهي تمثل جزء من العالم كله المعروف بالقرية الصغيرة، تتعامل أحداثها كلها في وقت واحد كصورة مرئية ومسموعة، مادام التطور مازال جاريا علي مستوي الدولة والكنيسة في الفكر والعلم والممارسة المجتمعية للعبادة.
حيث شهد القرن الثاني عشر نهضة ذهنية أعطت الناس سعادة للنفس وسمو بالفكر، وشجاعة للإيمان، وحطمت الشكوك الفلسفية للنظريات والدعامات التقليدية الراسخة بالكنيسة منذ دهورا، والتي تسلطت على الحياة المعنوية الروحية في الفرد والمجتمع، منذ القرون الوسطى إلي القرنين 16، 17 وساعدته علي الاستنارة العقلية المجردة للحياة الآمنة الهادئة، في حين أصبحت مصر غالبيتها إسلامية على نهايات القرن الثاني عشر، وعاش الأقباط كمواطنين درجة ثانية، وكانوا يتوقعون العداء من المسلمين في أي وقت، والذي تنامي مع الوقت وأصبح عنفًا!
أما الآن نرى الاتجاه الفكري الدولي أستهدف تخليص الكنيسة من الدولة، وتخليص الدولة من الكنيسة؛ بحيث تكون كنيسة حرة في دولة حرة، فتم العمل علي فصل الدين عن الدولة، فتتولى الكنيسة مهامها الروحية في حرية تامة، وتقوم الدولة بمهمة الحكم والقانون والنظام ونرى شعوب القرن وزعمائه يجاهدون لترقية الإحساس الاجتماعي الذي يعبر عنه بالوعي القومي مجردًا عن دين معين.
واشار الدكتور كمال يوسف الي انة نجد بعض الباحثين قد أطلق علي الفترة من 1914:1789م، (الثورة الفرنسية 1789م: قيام الحرب العالمية الأولي) بالقرن الطويل، والبعض الآخر يعتبر بدايته من 1815م (مؤتمر فيينا 1914م)، والبعض يشمل إعلان الاستقلال الأمريكي، ومع هذا هناك بعض ملامح السياسات الحاكمة لتلك الفترة يمكن إيجازها في:
بأت مظاهر الحقد التي كانت تسيطر على الغرب تطرق للكنيسة، بغارات الكاثوليك على كنيسة مصر الأرثوذكسية منذ أزمان طويلة، فبعد بدعة الحروب الصليبية (حروب الفرنجة) التي قام بها الغرب، ودفعت كنيسة الأقباط الثمن على اعتبار أنها كلها مسيحية واحدة في نظر المسلمين، الذين ما لبثوا أن تبينوا الحق من الباطل وعادوا أدراجهم للعلاقات الطيبة مع مسيحي مصر من الأقباط، ثم وجدنا الكاثوليك في عدة موجات يغيرون على الأقباط ويفشلون بأساليب كثيرة منها الارساليات التبشيرية وإنشاء المدارس والمعاهد والكليات الجامعية كاللاتينية من فرنسيسكان وجيزويت وغيرهم، بهدف إدخالهم في مذهبهم وسيطرتهم علي مسيحي العالم بحجه أن المسيح واحد في كل المسكونة.
إثارة مسيحيي المورة (مدينة باليونان)، على العثمانيين، وإتجه الأسطول الروسي للمورة لدعم الثورة، ولكنه مُني بالهزيمة، فعاد ووثب وأتجه لأحتلال جزيرة ”لمنوس“، فأجبرتها البحرية العثمانية على التقهقر، وأخمدت الثورة فيها 1772م، فأتفق الطرفان مقابل بعض الامتيازات لصالح روسيا، لعلّ أهمها هو حقها في حماية جميع المسيحيين الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وفي غضون الحرب العثمانية الروسية، ظهرت حركتان استقلاليتان عن الدولة العثمانية؛ هما: حركة علي بك الكبير في مصر، وحركة الشيخ طاهر العمر في فلسطين، وقد تمكن العثمانيون من القضاء عليهما فيما بعد.
قرب نهاية القرن الثامن عشر كان هناك تغيير جذري تقدمت فيه وتطورت الثورة الصناعية بأوربا، فحاولت الكنيسة الأوربية الاستفادة من مكانتها الروحية وعلاقاتها الدولية لتحقيق مطامحها الاقتصادية ووظائفها السياسية التي شكلت فيما بعد الدولة الاستعمارية التي تطمع في مد نفوذها خارج أوربا فخاضت حروب كاملة مع التقنيات المطورة حديثًا من التقدم العالمي، مما خلق دفعة معنوية قوية للثورات والحملات الاستعمارية في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا، بالإضافة لتطور أمريكا اللاتينية.
كانت حروب الثورة الفرنسية سلسلة من الصراعات العسكرية الشاملة والتي أستمرت من عام 1792م، بحروبها واجتياحها وتحالفات نابليون فيما بعد وحملته علي مصر والشام 1801:1798م، للقضاء علي توسع الولايات العثمانية واحتلاله مصر، فتحالف السلطان سليم الثالث (الإمبراطورية العثمانية) مع الجيوش الإنجليزية لطرد الفرنسيين، بعد فشل الحملة الفرنسية علي مصر، وانسحابها عام1801م، تحت ضغط الهجوم الانجليزي عليها، وتواكب الزحف العثماني على بلاد الشام، واضطراب الأوضاع في أوروبا.
كان تعداد المسيحية بمصر في أوائل القرن 19 هو 150 الف وفي آخرة وصل 600 الف حسب ما جاء علي لسان العلامة وليم ورل الاستاذ بجامعة ميتشيجان بامريكا، وأيضا قال: ”للقبط أهمية خاصة لأنهم البقية الباقية من الشعب المصري ذلك الشعب الذي يمتاز بأنه له أقدم تاريخ مدون“.
كان يظن البابا مرقص الثامن 1809:1797م، والمصرين بوقوفهم مع الفرنسيين يكون ذلك مكسبا للأقباط ولكن بسببها:
قامت حرب بين الفرنسيين والعثمانيين فى القاهرة بعد 18 شهرا من وصولهم، وأستمرت 34 يوما.
دخل الفرنسيون مصر، فأهان المسلمون الاقباط بسببهم، فنقل مقر البطريركية من حارة الروم للأزبكية بالدرب الواسع بعد حرق الكنيستان العليا والسفلى بحارة الروم.
حرق الميرون المحفوظ في دهليز الكنيسة السفلى بحارة الروم، مما جعل الكنيسة تبحث عن المتبقي منه لدى بعض كنائس مصر القديمة.
وقال الدكتور كمال يوسف لم يكن الحصول على فرمان بناء الكنيسة أمراً سهلا، إلا أن المعلم ابراهيم الجوهرى أستغل مركزه وتقدير السلطة الحاكمة له، وانتهز فرصة قدوم أحدى قريبات السلطان العثمانى لزيارة مصر من القسطنطينية فى طريقها للحج، فكان فى أستقبالها بحكم منصبه الرفيع، وأشرف بنفسه على ما قدم لها من خدمات، وعندما استحسنت ما فعله، سألته مقابلاً لذلك، التمس منها المساعدة فى استعداد فرمان سلطانى بالترخيص بإنشاء كنيسة كبرى فى الازبكية، وبدا بوضع أساسات الكنيسة وبجوارها أماكن أقام فيها الأنبا مرقص، وكذا التوسط لدى السلطان أن يرفع الجزية عن الرهبان وغير القادرين، فتم عمل كل هذا.
امتدت يد الحرافيش إلى نهب الكنائس بسبب هجوم الفرنسيين على الممتلكات الإسلامية وإيذاء المسلمين والأزهر.
خلال القرن التاسع عشر أصبحت الإمبراطورية البريطانية القوة العظمى في العالم في أعقاب الحروب النابليونية، واستكملت السيطرة متحكمة بأكثر من ربع سكان الأرض، ففرضت السلم البريطاني الذي شجع الازدهار التجارى وكافحت القرصنة، وتقلصت العبودية، في حين بدأت كل من الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية والدولة العثمانية، بالاضمحلال في الوقت الذي قضيت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والإمبراطورية المغولية.
أشعلت ثورة الشعب بقيادة عمر مكرم وأرخنه الكنيسة القبطية بمصر، مما أدي لأصدر السلطان العثماني سليم الثالث فرمانًا سلطانيًا بعزل خورشيد باشا من ولاية مصر.
ومع ظهور محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم الملقب بعزيز مصر، مؤسس الأسرة العلوية وحاكمها الحديث 1805- 1848م، علي مسرح الأحداث العالمية بمصر(تكفله حاكم وصديق والده ”إسماعيل الشوربجي“، وأدخله في الجيش، فأبدى شجاعة ونظره ثاقبة لما يدور من أحداث عالمية حوله، فقربه للحاكم وزوجه من امرأة غنية وجميلة تدعى ”أمينة هانم“، فكانت سبب السعد له، وأنجب منها إبراهيم، طوسون، إسماعيل وأبنتين)، فأظهر التودد لكبار رجال المصريين وعلمائهم ومجالستهم والصلاة ورائهم، وإظهار العطف والرعاية لمتاعب الشعب المصري وآلامه، مما أكسبه ود مسلميها والكنيسة القبطية أيضا.
استغل محمد علي ومكّنه ذكاؤه للظروف المحيطة به من أن يبايعه أعيان البلاد والكنيسة القبطية، للخلاص من الحملات الأوربية والماليك، فكان لهم الدور في توليته الحكم، فأستطاع أن يعتلي عرش مصر 1805م، ليكون واليًا عليها، بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا، وأستمر في حكمها، لكل تلك الفترة، ليكسر بذلك العادة العثمانية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين، ومع ذلك صدر فرمان سلطاني بعزله من ولاية مصر، وتوليته ولاية سلانيك، فأظهر امتثاله للآمر واستعداده للرحيل، إلا أنه تحجج بأن الجند يرفضون رحيله قبل سداد الرواتب المتأخرة، وفي الوقت نفسه، لجأ إلى عمر مكرم نقيب الأشراف وللكنيسة القبطية ليشفعوا له عند السلطان لإيقاف الفرمان، وما قام به من محاسن وانتصاره علي المماليك ليلتمسون بقائه، فقبلت الآستانة ذلك، على أن يؤدي 4,000 كيس ذهب، ويرسل ابنه إبراهيم رهينة لهم لحين السداد (كان قائد جيشة في زحفه علي الشام، فخاف السلطان من انهيار إمبراطوريته فجعله سلاح يستخدمه لتوسيع الدولة العثمانية).
خلال فترة حكم محمد علي، استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا فخاض حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر بالكامل، ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العثمانية بالحجاز (جزيرة العرب ”السعودية حالياً“) ضد الوهابيين، كما جالا جنوبا ووسع دولته بضمة للسودان وأنشاء بها عاصمه الخرطوم، وبعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية ذاتها حيث حارب جيوشها في الشام والأناضول، وكادت السقوط؛ لولا تعارض مصالح الدول الغربية معه، فأوقفت محمد علي وأرغمته على التنازل عن معظم الأراضي التي ضمها.
أدرك محمد علي أنه لكي تنهض دولته، يجب عليه أن يؤسس منظومة تعليمية، تكون العماد الذي يعتمد عليه لتوفير الكفاءات البشرية التي تدير هيئات دولته الحديثة وجيشها القوى، لذا بدأ بإرسال بعض الطلبة الأزهرين ”28“، لأوربا للدراسة في مجالات عدة، كالعلوم العسكرية، طرق بناء السفن، الهندسة، الطباعة، الصناعة، الزراعة، التجارة، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة، إلا أن حالتها لم تستمر بسبب ضعف خلفائه وتفريطهم فيما حققه من مكاسب، ليكونوا النواة لبدأ نهضة علمية، كما أسس المدارس الابتدائية والعليا، لإعداد أجيال متعاقبة من المتعلمين الذين تعتمد عليهم دولته الحديثة، مستخدماً هؤلاء في مصالح عديدة لثقته الكبيرة بهم، فأراد أن يرد لهم الجميل مما طمعهم فيه، فطلبوا منه ضَمّ كنيسة الأقباط إلى روما، فكان أيضا أستغلال الفرنسيون واحتلاهم لمصر من قبل، ودخول كثير منهم، وظلوا فيها حتى بعد خروج الحمله منها بحجه تواجدهم كإرساليات تبشيرية للمسيحية، لمحاوله ضم الطائفة القبطية كلها لمذهب كنيسة روما.
فلم يتنبه محمد علي لهذا العمل لعدم معرفته بالمسيحية ومذاهبها وعقائدها، فأستدعي كبير مساعديه المعلم غالي المسيحي وأبلغه بهذا، فنصحه بعدم قبولها لأنها سوف تسبب فتنه لا تنتهي وحروب وثورة شعبيه عليه وسفك دماء بكل المحروسة، مقترحا عليه أن يكون ذلك بسياسة وتدريب، فنعتنق نحن أولًا المذهب البابوي بشرط إلا نكره على تغيير طقوسنا وعاداتنا الشرقية (ما صارت علية الكنيسة الكاثوليكية فيما بعد بمصر وحتى الأن)، وبذلك تميل افرد الطائفة رويداً رويداً (كبرياء المنصب)، فقبل الباشا هذا الرأي وأخبر روما فرحبوا، وأنقلب المعلم غالى وأبنه باسيليوس بك وبعض من أهله وأقربائه ومعارفه في مصر وأخميم للكاثوليكية بالظاهر، وهم يأملون أنهم بعد حين يعودون لحضن الكنيسة القبطية مرة أخرى، بحجة أنهم يتعمدون ويتناولون الأسرار المقدسة من الكنيسة القبطية، ويعتبرون أنفسهم كهنة أرثوذكسيين، ولكن نبذتهم الكنيسة الأقباط في الحال، مما جعله يرسل قبطيًا من قبله لبابا روما لِيُعَيِّنَهُ بطريركًا على مصر، ويكون هو وأتباعه خاضعين له كل ذلك إرضاء للفرنسيين، وأن يستقر تفكيرهم ليحفظوا له مكانته في الحكومة ويخلصوه من زل الباشا، إلا أن محمد على أدرك خطورة هذا الأمر فيما بعد وقُتِل المعلم غالى في منتصف 1822م.
من الوقائع التي تدل على تسامح محمد علي مع غير المسلمين، وبشكل خاص المسيحيين، المرسوم الذي أصدره ليهدئ من روع رهبان دير القديسة كاترين في سيناء أيام حربه مع الوهابين في شبة الجزيرة العربية، بعدما تمركزت قوّات كبيرة العدد من الجيش المصري في سيناء بقيادة أبنه الذي أوفد له ما يعاني منه رهبان الدير من خوف نتيجة هذا العدد الهائل من الجيش، فكان رده ما جاء بصدور قراره الذي نص علي: ”صدر المرسوم الشريف الواجب القبول والتشريف والإتباع عن ديوان مصر المحروسة وإلى قدوة الملة المسيحية وعمدة الطائفة اليسوعية الرهبان سكان الدير بجبل سيناء، ختمت عواقبهم بالخير والرشاد، تحيطون علمًا أنه قد طرق مسامعنا حاصل عندكم خوف وزعل بخصوص قدوم العساكر المرسلة للحجاز، والحال أننا لا نرضى إلاّ كامل راحتكم واستراحتكم في محل مواطنكم بالدير بجبل سيناء، وتكونوا مطمئنين ومستريحين من هذا القبيل وعليكم أمان الله تعالى وأمان رسوله، ثم أماننا السعيد، فلم تخشوا من شيء جملة كافية، ولا أحد يعترض لكم بوجه من الوجوه، ويكون لكم الحماية والصيانة في ديركم محل وطنكم بجبل سيناء، ولم تهتموا من شيء مطلقًا، فبناء على ذلك أصدرنا هذا المرسوم الشريف عند وصوله إليكم يكون العمل بمضمونه وبمقتضاه واعتمدوه غاية الاعتماد“.
ويضيف الدكتور كمال يوسف بعد نياحة البابا مرقص، تمت رسامه البابا بطرس السابع (الجاولى) البطريرك الـ 109(1852:1809م) بعد سلفه بثلاثة ايام، في عهد الوالي محمد على باشا، وهو أول من وضعت عليه الأيدي فى مركز البطريركية.
اتصف بالحلم فى الرئاسة والحكمة فى التصرف وفى الكلام، فأصبح موضع احترام لدى الكل، فأعجب به محمد على فحصل الاقباط على الأمن والرفاهية، ووصلوا للمناصب الإدارية الرفيعة وإقامة شعائرهم الدينية وباشروا عبادتهم فى حرية تامه، وكانوا يخرجون موتاهم وإمامهم الصليب بدون خوف.
كان البابا لا يتدخل في أي أمر يخص السياسة، ولا يخرج من دار البطريركية إلا اذا دعته الحاجة وإذا سار في الطريق وضع علي وجه وشاح أسود، فاذا تكلم لا تكاد تسمع صوته، ولا ينظر لوجه سامعه.
كان فى النوبة 17 إبروشية عندما كانوا يدينون بالمسيحية، فلما خضعت لمصر بعد الفتح العربى ودخلها الاسلام أبدلت بحكومة إسلامية، ولما فتحها محمد على باشا 1820م كان لا يزال فيها آلاف من الأقباط، وعاد الذين تظاهروا بإنكار الديانة المسيحية للأعتراف بها، وطلبوا أن يرسم لهم أساقفة، فرشم لهم البابا بطرس أسقفين(أول مرة يتم رسامة أسقفين في أوبروشية واحدة).
استطاع الأقباط أن يعيشوا بسلام فى عهده لكثره المعجزات التي كانت تتم بين الناس وبين الحكام فى عهده، ومن أشهرهم: الأنبا صرابامون أسقف المنوفية الشهير بأبو طرحة.
استدعي محمد علي البابا بطرس الجاولي وأخبره بأن بنته زهرى باشا بها روح نجسه ولم يستطع الأطباء أو المنجمون والسحرة معالجتها، وطالباً معالجتها، لاسماعه بما أشتهرت به الكنيسة القبطية بعمل المعجزات وزادت شهرتها بإخراج الشياطين وقراءة المزامير، ورش المياه على وجوه المرضي، فأستعان البابا بأسقف المنوفية الأنبا صرابامون أبو طرحة، أن يتوجّها لقصر زهرى باشا، فإذا بدأ يصلي صارت تصرخ وأُلقيت علي الأرض صرعى فارتج القصر كله، وخاف الأباء فصاروا يستغيثوا بقوة السيد المسيح، وكان الأسقف يزرف الدموع وهو يقول: ”خطيتك عظيمة يا صليب، يا يسوع مجّد يمينك وأنصر كنيستك“، وعندما أكمل صلاته ورسم علامة الصليب على الماء وضرب به وجه الأميرة، صرخ الشيطان بصوتٍ مزعج وخرج منها.
فرح محمد علي باشا بشفاء ابنته، وحاول أن يكافئ الأنبا صرابامون، فأعتذر أن عمله ليس أن يربح بمواهب الرب، إذ أصرّ محمد علي باشا أخذ جزء يسير قام بتوزيعه علي العسكر أثناء خروجه، وطلب من محمد على باشا أن يتعطف علي الأقباط، منذ ذلك الحين صارللبابا مكانة عظيمة لدي عزيز مصر، وبالتالي لدي جميع الحكام، وأسندت وظائف كثيرة في الحكومة لكثيرين من الأقباط على أثر هذه الحادثة.
وحين قل فيضان النيل فى سنه 1825م فجعل البابا كل المصريين يصلون من مسلمين ويهود واقباط، إلا انه أقام قداساً والقى بمياة غسل الأوانى المقدسة فى النيل فأرتفعت مياهه إمام الجميع في الحال.
عدو الخير تدخل ليفسد علاقته الطيبة مع محمد على، فاوشوا به لدى ابراهيم باشا ابن محمد على، وكان قائدا فذا فى طريقة لفتح بلاد الشام، فقالوا له: أن ما يدعيه المسيحيون من ظهور النور على قبر السيد المسيح فى القدس هو زور وبهتان، فذهل إبراهيم باشا عندما رآه، وكاد يسقط على الارض قائلا امان بابا امان فذاد تكريمه للبابا.
وقال الدكتور كمال يوسف كان محمد على موفقا فى فتوحات شرقا وغربا فخشيت الدول الاجنبية من هذا، ومنها روسيا التى قدرت سوء الموقف لو أستمر فى فتوحاته، ففكرت أن تستعين بالأمة القبطية فى الوصول لأهدافها ضد محمد على بإعتبار مسيحيها من نفس الكنيسة، فأرسلت أميرا روسيا يعرض على البطريرك قبول حماية قيصر الروس لشعبه القبطي.
فذهب ظنا أنه سيرى رئيس أكبر أمة مسيحية فى أفريقية بحالة تدل على عظمته، فرأى إنسانا بسيطا يحمل الكتاب المقدس بين يديه يقراء فيه وهو يرتدى جلباباً خشناً جالساً على دكه خشبية وحوله مقاعد مبعثرة، ولم يبال به فسأله فى شك هل أنت البطريرك؟… فلما عرف جلس بجواره، وهو لا يصدق أنه يجالس البطريرك، وبدأ يسأله لماذا يعيش بهذه البساطه ولا يهتم بمركزة فى العالم المسيحى فأجابه البابا: ”ليس الخادم أفضل من سيده، فأنا عبد يسوع المسيح الذى أتى للعالم وعاش مع الفقراء ولأجلهم، وكان يجالس الخطاه ولم يكن له إين يسند رأسه، أما أنا فلى مكان أقيم فيه وأحتمى فيه من حر الصيف وبرد الشتاء، لم يكن للمسيح أرض وهو ملك السماء والأرض، لم يكن له مخزن يخزن فيه، وها أنا أكل وأتمتع، فهل هناك أفضل من هذا؟“، فتعجب المندوب منه، وبدأ يعرض عليه حاله الأقباط التعسة وحماية القيصر للشعب القبطي، فأستفهم البابا فى بساطة: وهل ملككم يحيا للأبد؟ قال له: ”لا يا سيدى البابا بل هو إنسان يموت كما يموت سائر البشر“، فأجابه: ”أذن أنتم تعيشون تحت ملك يموت وإما نحن تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله“، فلم يتمالك المندوب الروسي نفسه إلا إن يسجد أمام قدميه ويأخذ يقبلها، وتركه وهو يشعر بعظمة هذا الرجل البسيط وقال: ”لم تدهشنى عظمة الأهرام ولا أرتفاع المسلات، ولم يهزنى كل ما فى هذا القطر من العجائب بقدر ما هزنى ما رأيته فى هذا البطريرك القبطى“.
وصلت أنباء هذه المقابلة لمسامع محمد على فسر جدا وذهب ليهنئه على موقفه، وما أبداه من وطنية فقال له البابا: ”لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاده“، فقال له محمد على والدموع فى عينيه: ”لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك: فليكن لك مقام محمد على فى مصر، ولتكن مركبة معدة لركبك كمركبتى“، (أول بابا يتم له عمل مركبة خاصة من قبل الدولة)، ومن أقوالة أيضا ان القوة الالهية تكمل في الضعف مستندا علي إيات من الكتاب المقدس كسفر ذكريا (4:6) يقول ”لا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود“، مما يعني أن الحماية تأتى من الله وليس من البشر.
واشار الدكتور كمال يوسف لقد حصل خلاف بين الأنبا سلامة مطران الحبشة وبين ملكها بسبب فتح محمد على السودان سنه 1820م، فطلب النجاشى من البابا بطرس رسم الكهنة على حدود الحبشة لبعد المسافات، فكلف الأنبا سلامة بإختيار الكهنة فرسمهم من العلمانيين الأقباط على الطقس القبطى، فلم يرضى بهم الكهنة الأحباش الذين معه ونصحوهم العودة لمعتقدهم الصحيح فرفضوا، فهددهم بتطبيق شريعة الكنيسة وعقوباتها، فحاولوا شكايته لدى البابا للإيقاع به، فشجعه البابا على موقفه، فدار الأحباش من ناحية أخرى ليلعبوا بمسألة دير السلطان بالقدس، مستغلين شقاقا وقع بين الأحباش والرهبان فى الدير، حتى وصلت للشجار بالأيدى.
أخرج الرهبان الاقباط الأحباش خارج الدير وأغلقوا الباب، فحاول الأحباش الدخول عنوه، فذهبوا للقنصل الإنجليزى ليشكوا الأقباط، وكانت بريطانيا تكره محمد على والأقباط والمصريين جميعا فناصرهم القنصل الإنجليزى لدرجة أنهم أدعوا ملكية الدير وأن الذى أسسه هو ملك الحبشة، وأوعز القنصل للحبش بأن يرفعوا مظالمهم للسلطان العثمانى، وكان السلطان فى تلك الفترة يكره المصريين فسار منهم مجموعة للقسطنطينية وأراد البابا ان يحتوى الموقف فأرسل مندوبا عنه لملك الحبشة، لأنه كان شيخاً مريضاً، فأرسل بدلا منه القس داود (كيرلس الرابع فيما بعد) على اساس انه اذا نجح فى مسعاه يرسمه مطرانا هناك، إلا انه عندما وصل هناك حتى مرض البابا بطرس، وأوشك على الموت، ونصح بأن داود هو الذى سيخلفه فأرسلوا إليه ليحضر وينهي مهمته في الحبشة، فحضر بعد وفاته بأكثر من شهرين، وتنيح البابا بطرس الجاولى فى 1852م.
وعن تعليم البابا كيرلس الرابع البطريرك “أبو الإصلاح” الـ 110(1861:1854م) قال الدكتور كمال يوسف فصار ملما بالقراءة باللغتين العربية والقبطية والحساب، واختلط بالعربان المجاورين لقريته، فتعلم منهم الفروسية وركوب الخيل والجمال، وعند رهبنته نجح فيها، فظهرت مواهبه ومحبته للرهبان والذكاء والورع والميل لدراسة الكتاب المقدس.
ذاع صيته بين الرهبان ووصل لأذان البطريرك البابا بطرس السابع، فأستدعاه، ورأى فيه نبوغه وعبقريته فباركه ودعا له بالتوفيق، وذلك فى حضور الأنبا صرابامون أبو طرحة أسقف المنوفية، فرسمه قساً باسم القس داود الصوامعى، ثم رئيسا بعد سنتين، فوافق البابا بطرس، فسمى (ابو نبوت) فلم يسمح بخروج الراهب من ديره إلا للضرورة القصوى.
أختلف الاحباش فى بعض القضايا اللاهوتية والطقسية مع مطرانهم، ولم يستطيع حلها، فتم إغتياله، فأرسل اليهم البطريرك سنة 1841م مطرانا هو الانبا اندراوس، فوجد المشاكل متفاقمة!، مما جعله يلجأ للبطريرك بطرس السابع يسأله المعونة، فأرسل اليه القس داود رئيس دير الأنبا انطونيوس وحمله رسالتين والأخرى للشعب الأثيوبى (الحبشى).
حاول القس داود أن يحل المشاكل العقائدية القائمة بين المطران والشعب، وأن يضع حدا حاسما لمشكلة دير السلطان الذى تتنازعة الكنيستان، إلا انه لم يتوصل لتسوية قاطعه فى كلا الأمرين.
أخر القنصل الإنجليزى موعد عوده القس داود لمصر سنه وبضعة أشهر وضايقه، فعاد للقاهرة 1852م، وبعدها أنتقم الأحباش من الأنبا اندراوس فأودعوه السجن وظل فيه إلى إن تنيح.
كان البطريرك بطرس السابع قد وعد القس داود بترقية لرتبة المطران إذا نجح فى تسوية المشكلة الاثيوبية، ولكن داود عاد للقاهرة بعد نياحة البابا بأثنين وسبعين يوما، ووجد الشعب منقسم لثلاث أحزاب هى:
الحزب الأول : ينادى بترقية الأنبا يوساب أسقف جرجا وأخميم لرتبة البطريرك، مرددين إشاعة تقول: ”إن المنجمون وعلوم المطالع يؤكدون أنه لو صار داود بطريركا فسيكون قدومه شؤما على الحاكم والمحكومين“!،، مدعين أنهم أخذوا آمرا شفوياً من عباس باشا الأول بتنصيب أسقف أخميم بطريركا، وتأهبوا لرسامته بعدما أرجفوه من رسامه داود التي ستجلب الخراب على البلاد.
الحزب الثانى: صلاحية القس داود الصوامعى لمنصب البطريركية على أساس توصيه البابا الراحل عنه قبل نياحته، فأخذ أنصاره ومؤيديه يزدادون تفوقاً وعدداً، حتى أصبحواً يمثلون صوت الشعب القبطى كله.
الحزب الثالث: أن الأنبا اثناسيوس أسقف أبوتيج هو رجل المهام الصعبة الذى يليق بالموقف الراهن، ولكنه أنسحب بعد كم المشاكل التي حدثت وقتها.
زاد الانشقاق فاستعان أنصار القس داود بالمستر ليدر أحد مرسلى جمعية التبشير الإنجليزية للتوسط لدى قنصل إنجلترا فى مصر فى قبول القس داود بطريركا لدي عباس الأول، وفعلا وعد، ولكنه ماطل فيه.
حضر قس حبشى من الحبشة معه هدايا ورسالة من النجاشي لعباس باشا، وأشاع بأن القس داود سار لبلاد الحبشة ليستعين مع إتباعه بالنجاشي للخروج على طاعة عباس، فاستدعاه الأخير لدار المحافظة وأستجوبه بمجلس الحكام بقلعة الجبل، وكانوا يضيقون عليه الخناق فى التحقيق كل يوم، يأتون به مرة أو مرتين.
كان هادئا ثابتا يتكلم برزانة وتعقل، فأغتاظ عباس باشا، وأشتد بغضبة على الأقباط، فأمر بفصل الموظفين منهم من خدمه الحكومة، ونفى الأعيان منهم لدارفور بالسودان، وأذل الباقين فى مصر كلها، وعاشت الكنيسة والشعب فى أضطهاد رهيب.
أستدعى الباشا رئيس الوزراء (تخدا باشا) جاد أفندى شيحه وأعلمه برغبة الباشا فى أختيار بطريرك غير القس داود، وطلب منه التعجيل فى ذلك خشية تدخل القنصل الإنجليزى.
جمع جاد أفندى الأساقفة وعرض الآمر عليهم فكثرت أرائهم ووحدتهم، فى الوقت الذى أتفق فيه حزب أسقف أخميم على تنفيذ رغبتهم بالحيلة (يجتمعون الأساقفة ليلاً بالدار البطريركية ويتبعهم مؤيدهم سراً ومعهم أسقف أخميم وجاد أفندى وبعض أقاربه، ويغلقوا الأبواب ويضعواً حراساً عليها، وبدءواً فعلاً بصلوات الرسامة فى الداخل سراً، ولكن حيلتهم لم تتم، معللين ذلك بأمر شفهي من عباس باشا برسامته).
ظهر أحد العميان العرفان يصرخ ويطوف ويصيح فى شوارع المسيحيين والحارات والأزقة وينادى فوقواً من نومكم يا قوم ففى هذه اللحظة يتم رسامة أسقف أخميم سراً، حتى أستيقظ الناس وانطلقوا مسرعين للدار البطريركية، فتصدى لهم الحراس فأقتحموا الأبواب، وكثرا الهياج.
تم أخراج الأساقفة من الكنيسة بالقوة، بمساعدة بعض الأحباش النيام وكسرواً أبواب الكنيسة، وأخرجوا الأساقفة رغما عنهم، وأختلطت الاصوات وتعالى الصياح، وأستمر الهياج خارج الكنيسة وداخلها وفى الشوارع المؤدية إليها حتى مطلع الفجر.
حضور قسيس حبشى بعد نياحه البابا بطرس مغتاظا من القس داود بسبب ذهابه لهم وتهدئه المشاكل بين الشعب والأنبا إندراوس لكي يوشى به للبطريرك فوجد البابا قد تنيح، ولكن عندما أعلن عن رسامه القس داود بطريركاً، أشاع تزويجه من أمرآة حبشية وله منها ولدان، ليعطل رسامته، ولما استقصه الكنيسة عن حقيقتها أتضح كذب هذا القس الحبشى.
الفتنة كادت تعم البلاد، فحذر القنصل الأنجليزى عباس باشا من سوء العاقبة، فتم توسيط الأنبا كيرلس مطران الأرمن الأرثوذكس بالقاهرة من قبل الحكومة فى الصلح بين الفريقين، فلم يوفق، لكنه إعاد ونجح بإقناع الطرفين برسامة القس داود مطرانا عاماً، فإن ثبتت كفاءته قلدوه بطريركاً بعد ذلك، وإن لم تثبت فيظل مطرانا لمصر، ومن ثم علي الأقباط البحث لمرشح أخر، ثم كتبت له تزكية بذلك ووقع عليها كل من: 10 أساقفة، 3 رؤساء أديرة هم:
الأنبا صرابامون أسقف المنوفية، الأنبا إبرام أسقف أورشليم، الأنبا باكوبوا أسقف المنيا والأشمونيين، الأنبا اثناسيوس أسقف منفلوط، الأنبا مكاريوس أسقف أسيوط، الأنبا يوساب أسقف جرجا وأخميم، (الذي كانت عليه المشاكل من قبل)، الأنبا إبرام أسقف قنا وقوص، الأنبا ميخائيل أسقف إسنا، الأنبا أسحق أسقف الفيوم والبهنسا والجيزة.
ومن رؤساء الأديرة: القمامصه عبد القدوس رئيس دير ألسريان، حنا رئيس دير البراموس، جرجس كاهن دير أبو مقار.
لم ينتهي الآمر لهذا فقط بل اجتمعوا جماعة الأحباش لا يحبون القس داود مع بعض العامة وبأيديهم العصى ودخلوا الكنيسة قبل أتمام الرسامة، وصاحوا فى وجوه المصلين بالسب والشتم، وأشتد الهياج، فهرب الأساقفة، وتعقب الأحباش القس داود ليقتلوه فأختفى منهم، ولكن الكل كانوا قد أتحدوا على رسامته مطرانا، فرشم فى اليوم الثانى كمطران عام لجميع تخوم الكرازة المرقسية.
لأقى فى أيامه أسؤ معاملة وأسوء مقابلة فمنعوه من إنجاز مصالح الطائفة، وأشتدوا عليه، فإذا أراد النوم لا يجد فراشا ينام عليها ولا وسادة لرأسه، ولا طعاما إلا ما يسمحون به له، ولا يسمحون له بلقاء أحد.
وقال الدكتور كمال يوسف مع كل هذا كان القس داود ساكن البال، طويل ألاناه رائق الحال لا يأبى جهدا فى إعطاء النصائح والوعظ وتقارب القلوب المتنافرة والمتفرقة، حتى يأسوا من طول بأله وصبره، فأخذ يباشر إعماله بنشاط وفاعليه.
فبدأ بهمة لا تعرف الكلل فى تنفيذ مخططه الإصلاحى دون حساب لما يدور حوله، فوجه أهتمامه إلي:
منع الكهنة من عمل عقد إملاك عند إجراء الخطوبة حتى تترك فترة للتعارف بين الخطبين.
تحذير الكهنة من تزويج البنات القاصرات.
تحذير تزويج النساء المترملات المتقدمات فى السن من الشباب.
حتمية أخذ رضاء وموافقة الزوجين قبل الأكليل المقدس.
نشر التعليم بين إبناء شعبه، كاتباً لهم منشورات مطوله ينتقد فيه طرق تعليم النشء بالكتاتيب التى يديرها عرفاء فاقدوا البصر.
جمع المال لإنشاء المدارس النظامية لتهذيب البنين والبنات ونشر المعارف الصحيحة فى كل البلاد، فأستجاب الشعب لرغبته وأنهالت عليه العطايا، وكان أولها بناء المدرسة الكبرى للأقباط، وكانت لفترة قريبة موجودة فى فناء البطريركية القديمة بالدرب الواسع، كما أشترى عدة منازل وهدمها وأقام على أنقاضها مدرسة مسيحية، فكان بناؤها سبباً لإجماع الجميع على تزكيته بطربركأً.
طلب الشعب والأعيان من قنصل إنجلترا معاونتهم على أختياره بطريركا لدى عباس باشا الأول، وأخذ فعلا موافقته بحضور الاساقفة ما عدا أسقفى أخميم وأبوتيج ورسم بطريركاً ولقب بكيرلس الرابع 1854م.
بعد رسامته بطريركا بأربعين يوما فقط، تلعب الصدفة دورها ويقتل عباس باشا الأول فى قصره ببنها، مما جعل البعض يصدق كلام الدجالين بأنه لو جاء كيرلس بطريركاً فسوف يكون شوماً على حاكم البلاد.
بعد رسامته بطريركا عكف على العمل لما فيه رقى الكنيسة القبطية فقام ب: 46 حاجة تم عملها في 6 سنوات
جعل التعليم فى متناول الجميع بعد ان كان قاصرا على مدارس الدولة التى انشأها محمد على واقتصرت على ابناء الوجهاء، فوسع مساحتها حتى تستوعب اكبر عدد من التلاميذ وأفتتحها رسميا بحضور وجهاء الدولة فى 1855م.
كان يعتني وينفذ كل مطالب التلاميذ من دفع مرتبات المدرسين واختيارهم من المهرة فى تعليم اللغات الحية من عربية وتركية وفرنسية وإنجليزية وإيطالية مع كل المواد الأخرى التى تعمل بها المدارس الحكومية، وجعل فيها التعليم والكتب والأدوات بالمجان.
انشأ حوالى 12 مدرسه منها أول مدرسة خاصة للبنات بحارة الساقيين، لتهذيبهم وتعليمهم التدريب المنزلى من طهى ونسيج وخياطة وتطريز وبعض اعمال الخدمة الطبية مع علوم الدين واللغات، فكانت لهم اول مدرسة في مصر كلها قبل قاسم أمين بعشرات السنين لتعليم البنات، حيث كانت البنات تعانى الجهل والتعليم وعدم العناية بهم.
جعل المرأة شريكة للرجل فى كل اطوار حياته، وقد اقتدت الحكومة به وفتحت بعدها مدارس للبنات، فحفظت للمرأة كرامتها.
لم يكن يسمح بالطلاق إلا لعلة الزنا تطبيقا لمبدأ الأنجيل.
أوصى المسيحيين بعدم التفريق بين الأثنى والذكر بالميراث فهم سؤا؛ لأن الله لا يميز بين روح الرجل وروح المرأة.
كان يزور غرف التدريس دائما كل يوم مرة أو مرتين، ويستمع لإلقاء المدرسين للدروس.
أنشأ بالمدرسة قاعة يستقبل فيها الزوار لاسيما الأجانب الذين كان يكلفهم بفحص غرف التدريس وإبداء ملاحظاتهم عليها وما يؤول لنجاحها من شدة أهتمامه بالتعليم.
كان يقوم بنفسه بإلقاء بعض الدروس التاريخية والأدبية على الطلبة مما يناسب آدراكهم وسنهم.
جعل تعليم اللغة القبطية أجباريا مع الأشراف على ذلك بنفسه.
أعد ملابس خاصة للطلبة ليقوموا بالخدمة فى الكنيسة، مما دفع الأهالى للإعجاب بمشروعاته ودفعوا أولادهم على الالتحاق بمدارسة والأنتظام فيها.
انشأ مدرسة أخري بحارة الساقيين كان يزورها كل أسبوعين، عندما رأى بعض الطلبة يتكبدون مشقة الحضور من جهات بعيده.
أنجبت المدارس إبناء كثيرين تكلموا باللغات المختلفة، وكانوا من الأقباط المسيحيين.
كان يدعو سنويا كبار القوم ليوزع الجوائز الفاخرة على التلاميذ النابغين تشجيعا لهم وتشجيعاً لزملائهم وأهاليهم.
طبع عدة كتب بدار الطباعة بلندن للغة القبطية وإحيائها فتعلمها ونهض، وأصلح النطق بحروفها فنبغ إبناء الكنيسة القبطية، وتكلموا بها، كالمعلم عريان جرجس مفتاح، والقمص فيلوتاؤس ابراهيم عوض، وبرسوم إبراهيم الراهب، وفانوس ميخائيل جرجس، والدكتور ابراهيم بك حلمى مفتش صحة السويس، فكانت فى أخر أيامه من أهم اللغات التى كان يتكلم بها إبناء المدارس لدية.
سعى لدى سعيد باشا ببناء كنيسة بحارة الساقيين، وأقام أول صلاة شكر فى تلك الكنيسة وبقيت كذلك إلى ان بنيت الكنيسة الحالية فى عام 1881م.
أنشاء مكتبة تجمع الكتب النفسية والمهملة دون عناية جامعاً من خزائن الأديرة الكتب الثمينة والسجلات المهمة لوضعها فيها، فأصلح نظمها وتنظيمها، وأمر بتصحيح الكثير منها، حيث كانت تضم كثيرا من الحشو والتخاريف وضبطها.
بدأ يسترضي جماعة العرفان وأصحاب الكتاتيب بأن أشركهم فى التعليم الأولى فى المدارس التى أنشاها.
قام بشراء مطبعة من أوربا “ايطاليا”،عندما إنتظمت مدارس البنين والبنات التى أنشأها لطبع الكتب المدرسية، وما تحتاج إليه الكنيسة من الكتب الدينية؛ لاعتمادهم على الكتب المخطوطة التى حرفها النساخ أو كتبوها بخطوط رديئة تصعب قراءتها، وعندما وصلت ميناء بولاق كان يومها بدير الأنبا انطونيوس بالصحراء الشرقية، فكتب لوكيل البطريركية بالقاهرة بأن يستقبلها فى زيه الكهنوتى ويكون الشمامسة بملابسهم الكهنوتية، وهم يرددون الحان الفرح والسرور، ولما عابه البعض على ذلك بعد مجيئه من الدير، أجابهم: لو كنت حاضراً عند وصولها لرقصت أمامها كما رقص داود النبى أمام تابوت العهد.
قام بتوسيع بعض الأديرة مثل دير السريان، ولكنه تنيح أثناء العمل به.
بدأ يصلح أحوال الكهنة المعيشية، وربط مرتبات شهرية لبعضهم، وتأسيس مدرسة إكليريكية لتعليمهم وتثقيفهم.
أقنع الحكومة باستعمال التاريخ القبطى، حيث قال: ”صاحب كتاب التوقيعات الإلهامية“ فى أبتداء 21 شوال سنه 1271ه أستعملت التواريخ القبطية بحسابات مصر، اى من اول ابيب 1571 ش الموافق 7 يوليو 1855م، وبقى مستعملا إلى أن أستبدل بالتوقيت الإفرنجى من أول ديسمبر 1875م.
قام البابا كيرلس الرابع بتقدم طلب للوالى بتطبيق نصوص الفرمان الذي أصدره علي المسيحيين، بمساواة كل المواطنين والتمتع بكافة الحقوق على جميع المصريين فوعده الباشا بذلك، ولكن رآه يماطل فى تنفيذه.
توجه لدير الأنبا انطونيوس ومعه الأنبا كلينيكوس بطريرك الروم الأرثوذكس الذى كانت تربطه به صداقة قويه، ومكثا هناك قرابة ستة أشهر، فأنتهز قنصل فرنسا هذا الخلاف وعرض على البطريرك تسوية الآمر بينه وبين أمير البلاد شريطة أن يسمح للرهبان اليسوعيين بتأسيس مراكز تبشيرية فى الحبشة إلا إن البابا رفض هذه الوساطة التى لا تتفق مع مصلحة الكنيسة.
وعن تولى سعيد باشا الحكم (محمد سعيد باشا أبن حياة قادين أحدي وصيفات محمد علي أو زوجاته غير الشرعية)، قال كمال يوسف انة واجهتة مشاكل متعددة في الجيش والتجنيد، فجعل التجنيد إجباريا على كل المصريين وحملهم السلاح، فشجع سعيد باشا على هذا، ليكون القبطى مواطنا لأخيه المسلم ويكون هذا مبرراً لرفع الجزية عن المسيحيين وينال شرف الجندية وشرف المواطنه كمصرى.
قام بهدم الكنيسة البطريركية بالدرب الواسع بالأزبكية من أساسها التي بناها المعلمان إبراهيم وجرجس الجوهرى بعدما وجدها ضيقه ومتواضعة وعمارتها ضعفت ومهدده بالانهيار، فوضع تصميما يليق بكاتدرائية كبرى تليق بمركز رئاسة الكنيسة القبطية، إلا انه مات أثناء بنائها فأكملها خليفته البابا ديمتريوس الثانى.