
كعادة الأمهات في انتظار أبنائهن عقب عودتهم من المدرسة، وقفت الأم في شرفة شقتها، كانت الساعة قد أوشكت علي الثالثة عصرًا، استراح قلبها قليلًا، وخفت حدة قلقها علي ابنها محمود، بعدما رأت "باص" المدرسة يتوقف بالقرب من العقار، ولمحت ابنها ينزل سلم "الباص" مهرولًا، سعيدًا بوصوله إلى منزله.
مرت اللحظات التالية سريعة، بعدما تعرقل الطفل الصغير خلال سعيه للوصول إلى المنزل، ليسقط خلف "الباص" مباشرة، وسقط معه قلب أمه التي تشاهد ما يحدث مع صغيرها من الشرفة، صرخت به لينهض، وعلى وجهها نظرة مرعبة، وكذلك المارة في الطريق صرخوا ليحذروا السائق، خاصة، أن الأتوبيس بدأ في التحرك للخلف، وقبل أن يتمكن "محمود" من النهوض دهس الأتوبيس رأسه، لتصعد روح الصغير إلى خالقها في الحال، أمام ناظري والدته المسكينة، ووسط صوت صراخها الهيستيري.
انتقلت "بوابة الأهرام" إلى الحي الأول بالشيخ زايد، والتقت عددًا من جيران الطفل محمود مازن، الذي لقي مصرعه تحت عجلات "باص المدرسة"، ليرووا تفاصيل الحادث المؤلمة.
يقول إبراهيم الشبراوي، 25 سنة، صاحب محل أدوات صحية، "مازلت حتى الآن أحاول تخيل ما حدث، فعلى الرغم من وفاة محمود مازن على بعد عدة أمتار من محل عملي، إلا أنني لم أر الحادث.. فقط رأيت الجثة مسجاة علي الأسفلت، قطع المخ متناثرة على الطريق، والدماء تخضب الأسفلت، وصرخات الأم وعدد من السكان تصم الآذان، في مشهد لا يمكن نسيانه".
"بعد لحظات من الحادثة شاهدنا الجثة.. والأتوبيس فص ملح وداب"، يشير "إبراهيم" بتلك الجملة، إلي أن سائق أتوبيس المدرسة فر هاربا علي الفور، بعد أن ارتكب جريمته، ولم يكلف نفسه حتي عناء النزول، والاطمئنان علي الطفل الصغير، ويتابع "عم "فايز" صاحب السوبر ماركت، جاب شوية كراتين، وغطي جثمان محمود".
يصف "الشبراوي" الحادث في مجمله بـ"الغامض"، فهو وباقي الجيران لا يستطيعون حتي الآن تحديد كيفية وقوع الحادث، فالأتوبيس دهس محمود مازن، وسار لنهاية الشارع، دون أن يلاحظ أحد جثمان الطفل، أو كيفية سقوطه على الأرض، او حتي يسمعون صوت فرامل غريبة، كما أن الأتوبيس دهس الطفل بـ"الدوبل" الأيمن الخلفي للسائق، ما يجعل الواقعة صعبة التصور.
أما محمد علي، يعمل حلاقًا، يقول، إن حادث محمود مازن، ليس الأول في الشارع الذين يقيمون فيه، فمنذ عدة أشهر صدمت سيارة ملاكي أحد أطفال المنطقة، ويدعي "عبدالله"، وأصيب بكدمات وكسور فى مناطق متفرقة من الجسد، ما دفع السكان لإقامة مطبين صناعيين، أحدهما فى أول الشارع، والثاني في آخره، لإجبار السيارات على تهدئة السرعة.
وعن محمود مازن وأسرته، يقول محمد علي، إنهم أسرة قمة في الأخلاق والاحترام، علي الرغم من وجودهم في المنطقة منذ زمن بعيد، إلا أنهم قليلو الاختلاط بالسكان تجنبًا للمشكلات، وحتي الصبي محمود، كان في الصف الثاني الإبتدائي، لم يكن من الممكن رؤيته إلا بصحبة والده، أثناء ذهابهما معًا للصلاة في المسجد، أو أثناء ذهابه وعودته من المدرسة.
"لازم إللي عمل كده ياخد جزاءه" يعبر محمد علي عن سخطه على السائق، الذي دهس الطفل محمود مازن، خاصة أن رخصة القيادة التي يستخدمها رخصة خاصة، ولا يملك رخصة مهنية، وهو في حد ذاته، إهمال جسيم من جانب إدارة المدرسة، كما أن سائق أتوبيس المدرسة، يجب أن يدرك أنه يتعامل مع أطفال، لذلك يجب أن ينتظر حتى يرى الطفل في مأمن أمام منزله، قبل أن يبدأ في التحرك، فهي لحظات انتظار قليلة، لكنها تقي من مصائب كبيرة.
وعن بشاعة الحادث، يقول منيب محمد، سورى الجنسية، ويعمل فى محل موبيليا بالمنطقة، إنه رأي الكثير من الحوادث، والكثير من الجثث، لكن مشهد جثة الصبي محمود سيظل عالقا في ذاكرته، فجسده كان سليمًا بالكامل، لكن رأسه كانت تبدو كأنها انفجرت بعدما دهسها الأتوبيس، وتبعثرت قطع مخه علي الطريق وسط الدماء، وبقي جزء آخر من المخ بجانب الجثة، فيما سقطت "الزمزمية" الخاصة به بجانبه، وشنطته كذلك.
"كانت ملامح الجثة مشوهة في البداية، ومعرفناش هو مين"، يواصل منيب محمد، روايته لمشاهد ما بعد الحادث، ويقول "عرفنا إنه محمود مازن من اسمه على الكراسة، والدته كانت واقفة في البلكونة، ومنهارة تمامًا من البكاء، وبتصرخ بصورة عنيفة جدًا، بصراحة المشهد كان صعبًا على أي حد".
ويضيف منيب محمد، "كنت جالسًا وقت الحادث في محل عملي، برفقة أحد أصدقائي، كانت الساعة الثالة عصرًا تقريبًا، ولم تكن هناك الكثير من السيارات في المنطقة، سمعنا الصراخ والعويل، للأمهات الواقفات كل في شرفتها في انتظار نجلها، ومن بينهن والدة محمود، وفي ذات الوقت شاهدنا "باص المدرسة" يمر من أمام المحل، وبعد أن توجهنا لمكان الحادث، علمنا بما جري"، ويتابع، "بعد الحادث عادت مشرفة المدرسة، لتستفسر عما حدث للصبي، وحينما علمت أنه توفى، أجهشت بالبكاء بصورة هيستيرية، لكنها نفت التهمة عن السائق، وأكدت أنها اتصلت به عدة مرات، لكنه أغلق هاتفه".
ويشير منيب محمد، إلي أن معرض الموبيليا الذي يعمل به هو الوحيد الذي يملك كاميرات مراقبة، لكن لسوء الحظ، أن الكاميرا لم تلتقط الحادث، نظرا لوجود عطل بها يشوش علي جودة إرسالها، مؤكدا، أنه كان يراقب الطريق حينها، ولم يمر أمامه سوي أتوبيس المدرسة.
حاولت "بوابة الأهرام" التواصل مع والد ووالدة الطفل محمود مازن، لكنهما رفضا التحدث بشأن الواقعة، وكما أكد بعض الجيران، أن ذلك بسبب مرورهما بحالة نفسية سيئة للغاية بعد الحادث.