* أول ملاك ظهر وذكره الأنجيل المقدس, كان هو الملاك الذي ظهر لزكريا الكاهن.. أنها لفتة كريمة من الرب يعطي بها كرامة للكهنوت, فيكون ظهور الملائكة أولا للكهنة, بعد فترة الاحتجاب الطويلة. ولفتة كريمة أخري للكهنوت, أن يظهر الملاك في مكان مقدس واقف عن يمين مذبح البخور, وفي لحظة مقدسة عندما كان زكريا البار يكهن للرب ويرفع البخور أمامه (لو1 : 8 ـ 10).
جميل من الرب أنه عندما أرسل خدامه السمائيين, أرسلهم أولا إلي بيته المقدس وإلي خدام مذبحه الطاهر.
ولا شك أن هذا كله يشعرنا بجمال المذبح الذي وقف الملاك عن يمينه في أول تباشير الصلح, كم بالأكثر جدا مذبح العهد الجديد في قدسيته الفائقة للحد, حيث ملاك الذبيحة الصاعد الي العلو يحمل إلي الله تضرعنا..
نعود إلي الملاك الطاهر الذي ظهر لزكريا الكاهن..
كان خذا الملاك يحمل بشارة مفرحة. لقد عاد الرب يفرح وجه الأرض التي حرمت كثيرا من أفراحه في فترة القطيعة والخصومة.
وهل هناك فرح أعظم من تبشير زوج العاقر بأنها ستلد ابنا لم يقم بين المولودين من النساء من هو أعظم منه (متي 11:11). ابن سيكون عظيما أمام الرب (لو 1:15)!!, عبارات الفرح تدفقت من فهم الملاك, فقال لا تخف يا زكريا, لأن طلبتك قد سمعت, وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنا, وتسميه يوحنا, ويكون لك فرح وابتهاج, وكثيرون سيفرحون بولادته.
وكانت إيحاءة جميلة من الرب في تباشير هذا الصلح, أن يسمي الطفل يوحنا.. وكلمة يوحنا معناها الله حنان!!
وكان الله يقصد أنه وإن تركنا زمنا, إلا أن محبته دائمة إلي الأبد, مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها (نش 8: 7). وأنه وإن حجب وجهه حينا, فأنه لا يحجب قلبه الحنون.
فعلي الرغم من فترة القطيعة بين السماء والأرض التي سبقت ميلاد المسيح, وعلي الرغم من الخصومة القائمة, كان الله ما يزال كما هو, كله حنان وشفقة… الله حنان أو الله حنون لعل هذا يذكرنا بقول الرب من قبل لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب, وكزوجة الصبا… لحيظة تركتك, وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة, وباحسان أبدي أرحمك… (إش 54: 6 ـ 8) إنها نبوءة إشعياء عن مصالحة الرب لشعبه وكنيسته, قد بدأت تتحقق… تلك النبوءة العجيبة, الجميلة في موسيقاها, التي بدأها الرب بنشيده العذب ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد… (أ ش 54: 1). تري أكانت الصابات العاقر التي لم تلد رمزا للكنيسة في افتقاد الرب لها؟ وهل كان اسم ابنها يوحنا الله حنان رمزا أيضا لمصالحة الله لكنيسته؟ وهل ترنم ألبصابات العاقر لم تلد كان بشبرا بتحقيق باقي مواعيد الله إذ يقول لكنيسته في نفس النشيد: كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح علي الأرض, هكذا حتمت ألا أعضب عليك ولا أزجرك. أما إحساني فلا يزول عنك, وعهد سلامي لا يتزعزع, قال أرحمك الرب.
أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزبة, هأتذا أبني بالأثمد حجارتك, وبالياقوت الأزرق أؤسسك. وأجعل شرفاتك ياقوتا, وأبوابك حجارة بهرمانية, وكل تخومك حجارة كريمة, وكل بنيك تلاميذ للرب, وسلام بنيك كثيرا.
(أش 54: 6 ـ 12) هل كان هذا الأصحاح الرابع والخمسون من نبوءة إشعياء موضع تأمل القديسة ألصابات في خلاص الرب القريب, طوال الستة أشهر التي مرت ما بين بشارة الملاك لزكريا وبشارة الملاك للعذراء الفكرة تملأ قلبي, وتضغط علي عقلي بإلحاح شديد… ولا شك أن هذه القديسة الشيخة التي كانت تحمل ابنا نذيرا للرب في أحشائها, كانت تشعر أنه ليس بأمر عادي هذا الذي حدث لها. وأذ نتأمل في هذا الفصل من إشعياء ـ الذي ينطبق عليها وعلي الكنيسة ـ يهز كيانها كله هذا النبي الانجيلي إذ يقول ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو أسمه عمانوئيل (أش 7:14).
قلنا أنه من تباشير الصلح بين السماء والأرض كان ظهور الملائكة للبشر. وكان الملاك الأول هو الذي بشر زكريا الكاهن.
* أما الملاك الثاني, فكان جبرائيل الذي بشر السيدة العذراء.
نلاحظ أن هذا الملاك كان له مع العذراء أسلوب معين, لقد بدأها بالتحية, بأسلوب كله توقير واحترام لها, في بشارة زكريا لم يبدأه الملاك بالتحية, وإنما قال له لا تخف يا زكريا فأن طلبتك قد سمعت.
أما في بشارة العذراء فقال لها الملاك السلام لك أيتها الممتلئة نعمة.
الرب معك. وعندئذ ـ بعد هذه المقدمة ـ بدأ الملاك في إعلان رسالته.. وحتي هذه الرسالة أدمجها بعبارة مديح أخري فقال لا تخافي يا مريم, لأنك قد وجدت نعمة عند الله, ثم بعد ذلك بشرها بالخبر الذي جاء من أجله ها أنت ستحبلين وتلدين ابنا ونسمينه يسوع….
إنه أسلوب احترام عجيب يليق بالتحدث مع والدة الإلة الممجدة, الملكة الجالسة عن يمين الملك.
لم يستطع رئيس الملائكة جبرائيل أن ينسي أنه واقف أمام أقدس امرأة في الوجود, إنه أمام أم سيده, التي ستكون سماء ثانية لله الكلمة. فخاطبها بأسلوب غير الذي خوطب به الكاهن البار زكريا…
هنا نلاحظ أنه لم يبدأ فقط صلح بين السمائيين والأرضيين, بل بدأ تقدير وتوقير من سكان السماء لسكان الأرض في شخص أمنا وسيدتنا العذراء مريم… فمرحبا بهذا الصلح.
* أما الظهور الثالث, فكان ظهور ملاك الرب للرعاة.
هنا نجد تقدما ملموسا في العلاقات, إذ لم يقتصر الأمر علي أن ملاك الرب وقف بهم بل يقول الكتاب أكثر من هذا ومجد الرب.. أضاء حولهم. وبعد أن بشرهم الملاك بفرح عظيم يكون لجميع الشعب, وبولادة مخلص, ظهر بغتة ـ مع الملاك ـ جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي, وعلي الأرض السلام, وبالناس المسرة.
وهنا نسمع عبارات الفرح, والمسرة, والسلام, والخلاص… وبدلا من ظهور ملاك واحد, نري جمهورا من الجند السماوي يسبحون.
إنها تباشير الصلح العظيم, المزمع أن يتم علي الصليب.
ونلاحظ أن هذا الصلح قد بدأه الله لا الناس.
الله يصالح البشرية..
أول ما نتذكره في هذا المجال, هو أن الله يسعي لخلاص الانسان, حتي لو كان الإنسان لا يسعي لخلاص نفسه.
نلاحظ هذا منذ البدء: عندما اخطأ آدم وسقط, لم يسع لخلاص نفسه, بل نراه ـ علي العكس من ذلك ـ قد هرب من لله, وخاف من الله, واختفي من الله, لم يحدث أنه سعي الي الله, طالبا الصفح المغفرة, وطالبا النقاوة والطهارة, بل أنه لما سمع صوت الرب الإله ماشيا في الجنة… اختبأ هو وامرأته من وجه الرب (تك 3: 8).
وهكذا أوجد حجابا وحاجزا بينه وبين الله وبدأت الخصومة.
من الذي سعي لخلاص آدم؟ إنه الله نفسه, دون أن يطلب آدم منه ذلك. آدم شغله الخوف عن الخلاص أو حتي عن مجرد التفكير فيه…
وهكذا بحث الله عن آدم, وتحدث معه… وإعطاه وعدا بأن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية (تك 3: 15).
لقد اعتبر الله أن المعركة الدائرة هي بينه وبين الشيطان, وليست بين الشيطان والإنسان. اعتبر أن قضيتنا هي قضيته هو. وإذا بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية هو الله نفسه الذي آتي في ملء الزمان من نسل المرأة. هو الله إذن الذي دبر قصة الخلاص كلها, لأنه يريد أن الجميع يخلصون, وإلي معرفة الحق يقبلون (1تي 2: 4).
هو يريد خلاصنا جميعا ويسعي إليه, حتي إن كنا نحن ـ في تكاسلنا أو في شهواتنا ـ غافلين عن خلاص أنفسنا!
في قصة الخروف الضال, نري أن هذا الخروف الضال لم يسع لخلاص نفسه, وإنما ظل تائها وبعيدا.
والراعي الصالح هو الذي جري وراءه, هو الذي فتش عليه وسعي إليه, وهو الذي تعب من أجله إلي أن وجده, وحمله علي منكبيه فرحا, ورجع به سالما إلي الحظيرة…
وفي قصة الدرهم المفقود, نجد نفس الوضع أيضا.. الله إذن هو الذي يسعي جاهدا لخلاص الإنسان.
فإن تعطل خلاص الإنسان, يكون السبب بلا شك راجعا إلي الإنسان ذاته وليس الي الله.
وهذا الأمر واضح في تبكيت الرب لأورشليم, إذ قال لها يا أورشليم يا أورشليم, يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها, ولم تريدوا (متي 23:27)… أنا أردت, وأنتم لم تريدوا…
مثال آخر هو عروس النشيد, الله هو الذي سعي لخلاصها ظافرا علي الجبال, وقافزا علي التلال. وقال لها افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي, لأن رأسي قد أمتلأ من الطل وقصصي من ندي الليل (أش 5:2), وتكاسلت النفس في الاستجابة, وتعللت بالأعذار. فماذا كانت النتيجة… كانت أنها عطلت عمل النعمة فيها بعض الوقت, وصاحت في ندم حبيبي تحول وعبر.
تأكد أنك أن كانت تريد الخلاص من الخطية, فأن الله يريد لك ذلك أضعافا مضاعفة… المهم أنك تبدي رغبتك المقدسة هذه. هناك عبارة لطيفة قالها أحد القديسين. إن الفضيلة تريدنا أن نريدها لا غير يكفي أن نريد, إرادة جادة, والله يتولي الباقي, بل حتي هذه الإرادة هو يمنحها لنا, لأجل خلاصنا.
ومن القصص العجيبة عن سعي الله لخلاصنا, ما يقوله الله ـ في سفر حزقيال النبي ـ للنفس الخاطئة الملوثة مررت بك ورأيتك مدوسة بدمك… وقد كنت عريانة وعارية. فمررت بك ورأيتك وإذ زمنك زمن الحب…
فبسطت ذيلي عليك… ودخلت معك في عهد ـ يقول السيد الرب ـ فحممتك بالماء, وغسلت عنك دماءك, ومسحتك بالزيت, وألبستك مطرزة..
وجملت جدا جدا, فصلحت لمملكة (حز 16).
تلك القس المسكينة ـ لو تركت لذاتها ـ لبقيت علي حالها مطروحة وملوثة, عريانة وعارية, ولكن الله فعل من أجلها الكثير, وأنفذها مما هي فيه…
ولكن ليس معني سعي الله لخلاصنا, أننا نتكل علي ذلك ونكسل! كلا وإلا فأنه يتحول ويعبر كما حدث مع عروس التشيد, إنما يجب أن تتحد إرادتنا بأرادته, وعملتا بعمله, هو ينزل إلي عالمنا, ونحن نقدم له ولو مزودا ليستريح فيه…
إن الله يسعي لخلاصنا, ويسعي ليصالحنا معه. عجيب في هذه المصالحة, إننا نري الصلح يبدأ من جانب الله, أكثر مما يبدأ من جانب البشر… إنه درس لنا حينما تكبر قلوبنا علي إخوتنا الصغار, فلا نسعي لمصالحتهم بحجة أننا الكبار!! بينما قد وضع لنا الله مثالا حسنا….