عزيزي القارئ، تحدثنا في المقال السابق عن نوعين من القيادة هما القيادة الأمامية والقيادة الخلفية، واليوم نريد أن نتحدث عن كيف تتم قيادة للألحان في الكنيسة القبطية.

القيادة الغير المباشرة فى الكنيسة القبطية:
عند فحص أسلوب الكنيسة القبطية فى هذا الشأن، وُجد أنها ادركت أهمية القيادة المباشرة والغير مباشرة، الأمامية والخلفية، لذا أسست مفهوم القيادة الجانبية، التى تحقق كل مميزات القيادة الأمامية وتحل مشكلات القيادة الخلفية. فمما لا شك فيه أن القيادة الخلفية هى غاية فى الصعوبة، إذ كيف يقود جمهورا قد أدار ظهره له؟

لذلك خصصت الكنيسة القبطية مكانا للمرتل او المعلم او The Cantor ليكون الى جانب خورس الشمامسة البحرى وأمام خورس الشمامسة القبلى، وشبه امام جمهور السيدات، والى جانب جمهور الرجال. وبهذا الوضع ،لا يكون الجمهور خلفه بل الى جواره، وشبه أمامه فيكون هناك سهولة فى توصيل الاشارات الى كل جمهور المصلين بسلاسة، بمجرد حركة رأس أو تعبيرات وجه Facial Expression وهذا مطلوب فى ليتورجيا الكنيسة القبطية، خاصة أن الجمهور فى الكنيسة ليس جمهوراً مستمعاً فحسب، بل مشاركٌ فى التسبيح فى جميع المردات الريسبونسوريالية “التجاوبية” وفى بعض الألحان الجماعية.

قيادة الألحان القبطية فى الدورات الإحتفالية:

كلمة “دورة” هى اصطلاح طقسى قبطى يقابله فى السريانية “ِزيَاح”. وهو موكب طقسى كنسى ذو مغزى عقيدى أو روحى محدد، مشروحاً بالطقس. فالدورات هى طقس قديم معروف من القرون الأولى الميلادية والدورة الطقسية تكون مصحوبة بالألحان والمردات المختلفة المناسبة مع البخور والشموع والصلبان[1].

وأول ذكر لهذه الدورات موجود فى مذكرات السائحة الأسبانية “إيجيريا” (أواخر القرن الرابع الميلادى) فى وصفها لمواكب أسبوع الفصح (أسبوع الآلام) فقد كانت تتنقل بين الأماكن المقدسة التى شهدت أحداث الأيام الأخيرة من حياة المخلّص على الأرض فى مدينة أورشليم.

وعادة ما تهتم الكنيسة القبطية بالدورات الإحتفالية الطقسية،لما لها من مغزى روحى عميق فهى تجعل كل الشعب غير منفصل عن طقوس العبادة، فهى تجعله مشاركا تارةً بالنظر الى الطقوس أثناء ممارستها فلا ينشغل بالذهن الى غيرها، وتارةً أخرى تجعله مشاركا باللمس والتبرك من الصليب والأيقونات والشارات المقدسة التى تمر الى جواره وتكون أقرب للإلتصاق به، فيشعر بالجملة القائلة “الله فى وسطنا الآن” فهو ليس بعيد هناك على المذبح ،كما يقول لحن “شارى إفنوتى” ولحن “أسباذستى”، لكنه أيضاً حاضرٌ فى كل مكان وهنا الى جواره. وتارةً أخرى لا تجعله مشاركاً باللمس والتبرك فقط بل بالتسبيح خاصة عندما تكون الألحان سهلة ومتكررة مثل “كيرياليسون الفرايحى” الذى يكرر كثيراً فى دورة الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة ودورة باكر سبت الفرح.

هذا ولعل أصوات التسبيح لهؤلاء الشمامسة وهى تعلو تدريجياً كلما أقترب الشمامسة من أىٍ من هؤلاء المؤمنين (الشعب) وقد وقف مشرئباً بعنقه لمتابعة حركة الصليب والأيقونة وهى تقترب منه لكى يتبارك منهما، وكذا ذات هذه الأصوات وهى تخفت شيئا فشيئا كلما إبتعد هؤلاء الشمامسة عنه وهم يسبحون، لعل هذا التدرج الطبيعى للصوت بالتصعيد Crescendo أو بالخفوت Diminuendo الذى تُحدثه الزفة والدورة فى أذن كل مؤمن حضر وسط الشعب، له تأثير روحى ونفسى عميق يجعل هذه الألحان تتغلغل فى وجدانه.

ولعل ما يفعله الكثير من مهندسى الصوت بتقليد هذا الكريشندو والدمينويندو الطبيعى من خلال برامج موسيقية تقوم بعمل ما يسمى ب Fade in & Fade out هذا لمجرد إحداث هذا التأثير النفسى والروحى العميق الذى تحدثه مثل هذه الزفة الطبيعية. وقد قام أحد مهندسى الصوت بتسجيل لحن “غولغوثا” فى أسطوانة “موزار المصرى” وقد لجأ الى هذه الحيل التكنولوجية الحديثة فى نهاية اللحن ليحدث هذا التأثير.

والدورات تعتبر من أهم الطقوس التي تحتاج من المعلم ان يقود بدقة وأكثر تركيزا، ولقد وضعت الكنيسة القبطية للدورات “والزفّات” تصميماً دقيقاً لكل تفاصيلها،كما تبيّنه النقاط الآتية:-

توقيت بدء الدورة لكل طقس: فلكل زفة فى كل طقس ميعاد محدد لبدايتها وألحان محددة يتم الترنم بها لا سواها. ففى يوم الجمعة العظيمة تبدأ الزفة فى نهاية صلاة الساعة الثانية عشر وعقب المطانيات (المطانية هي أحد أنوع السجود) الإسترحامية ذات الأربعة مائة كيرياليسون، وخلال هذه الزفة يتم التسبيح بلحن كيرياليسون الكبير الفرايحى باستخدام الناقوس والمثلث. وفى ليلة الأبوغالمسيس (سهرة سبت الفرح) تكون هناك ثلاث دورات:
الأولي بعد مزمور”انوك بيبي كوجي” (انا الصغير في إخوتي)، ويتم الترنم في هذه الدورة بلحن “مارين أواونه أيفول”
الثانية قبل بداية صلاة رفع بخور باكر، ويتم الترنم في هذه الدورة بلحن “تين أويه إنثوك”
الثالثة قبل أوشية الإنجيل التي في صلاة رفع بخور باكر، ويتم الترنم فيه بلحن “كيرياليسون”.
هذا بالإضافة الي دورة رابعة تكون في مساء نفس اليوم عند البدء في تسبحة عيد القيامة المجيد ويتم الترنم فيها بلحن “تين ثينو إإبشوي” (قوموا يابني النور)

وفى ليلة عيد القيامة تجئ دورة القيامة بعد تمثيلية القيامة وإضاءة الأنوار. وفى الخماسين المقدسة وحتى التاسع والثلاثين منها تجئ دورة القيامة بعد قراءة فصل من سفر أعمال الرسل “الإبركسيس” وفيها يتم التسبيح بألحان عديدة منها اليونانى الكلمات مثل “خريستوس آنيستى الكبير والصغير” و “توليثو” و” تون سينا” ومنها القبطى مثل “بخريستوس أفطونف”.

وفي عيد الصعود (اليوم الأربعين من الخمسين المقدسة) توجد أيضاً دورة مماثلة، وفي عيد العنصرة (عيد حلول الروح القدس علي التلاميذ في يوم الخمسين من القيامة المجيدة) توجد زفة أخرى لكنها تتم أثناء رفع بخور صلاة باكر.

ويوجد هناك دورات أخري طقسية في عيدى الصليب وفى طقس إستقبال الكاهن الجديد، وفى طقس تجنيز الكاهن وفى التماجيد، وفى العماد ،… الخ وفى كل هذه الدورات الطقسية يتم إنشاد الألحان ويقوم فيها المــُــعلم بدور هام فى قيادة الألحان فيهاـ

عزيزي القاريء، سوف نستكمل هذا الحديث الشيق عن قيادة الألحان القبطية في الكنيسة القبطية في المقال القادم، حيث سوف نتعرف على من هم المشاركين فى هذه الدورات الطقسية في الكنيسة وماهي ملابسهم وماهي الألحان التي يرددونها في هذه الدورات. فإلى أن نلتقي في المقال الجديد اتركك في رعاية ملك الملوك ورب الأرباب.