تحتفل الكنيسة البيزنطية بعيد البشارة، وبهذه المناسبة ألقت الكنيسة عظة احتفالية قالت خلالها: أرسل الله الملاك جبرائيل إلى مدينة في الجليل اسمها الناصرة". يدهشكم أن تكون الناصرة، تلك المدينة الصغيرة، تتشرّف برسالة من ملكٍ عظيم، ويا لها من رسالة! لكن كنزاً يختفي في تلك القرية: إنه يختفي على البشر لا على الإله.
أفليست مريم كنزُ الله؟ أينما وُجِدت، فإن قلب الله يتبعها. عيناه عليها ولا يتوقف نظرُهُ عن أمته الوضيعة. أن كـان الابن الوحيد يـعرف السماء، فـإنه يعرف الناصرة أيضاً. كيف يمكن ان لا يعرف وطنه وميراثه؟ يأخذ السماء من أبيه والناصرة من أمّه، بما أنه يقول في آن واحد، أنه ابن داود وابن الربّ
لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ حظوةً عندَ الله. وأي حظوة! حظوة ممتلئة ووحيدة وفريدة... فريدة بقدر ما هي شاملة!... حظوة فريدة، لكونها وحيدة يا مريم، عندك الكمال. حظوة شاملة، بما إن جميع المخلوقات تستفيد من ذلك الشمول." أنت مباركة في النساء، ومباركة ثمرة بطنك". لكِ فقط ثّمرة بطنك، ولكنها بفضل وساطتك، تصل إلى نفوس الجميع... فبِكِ فقط تلاشى ذلك الملك الغني، وتواضع ذلك الملك العظيم،
وجعل ذلك الإله اللامتناهي نفسه صغيراً. وضع نفسه تحت الملائكة، ومع إنه إله حق وابن لِلّه، تجسّد. ولكن إلى أي غاية؟ لكي يُغنينا جميعاً بفقره، ويرفعنا بانحطاطه، ويعظّمنا بتصاغره، ويوحّدنا بالله بتأنسه، لكي نصبح بعد اليوم روحاً واحداً.
هذه ذكرى تجسّد الكلمة، وبه صارت العذراء مريم امّ الله. هذه الأمومة الإلهية هي أساس النعم والامتيازات كلّها التي غمر بها الله مريم العذراء:" السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الرب معك". إن أم الكلمة المتجسد، آدم الجديد، ورأس البشرية لخلاصها، أي سيدتنا مريم العذراء هي أيضاً بالروح أمّ الجنس البشري، أمنُّنا جميعاً، بسبب اتحادنا بالكلمة، بوصفنا أعضاء لجسد واحد هو رأسه، ينبع الحياة الإلهية فيه. مريم العذراء، برضوخها لإرادة الله ("أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك") الذي اختارها في مخطط التجسّد والفداء، أضحت شريكة الكلمة في تحقيق هذا القصد الإلهي لحياة البشرية البنوية والشكر الحميم، والوعي العميق للسرّ الذي بدأ اليوم يظهر للعالم، بفتاة الناصرة الوديعة والناصعة الطهر، " لأنه نظر إلى تواضع أمته، فها منذ الآن تغبطني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي عظائم"