البابا الراعي ..
* من التدبير .. إلي الرعاية
مع البابا المدبر, عشنا عشر سنوات, رأينا فيها رعايته لكل إنسان وكل الإنسان.. وتجسدت صورة البابا الراعي في عيوننا, فمنذ أن تولي البابا تواضروس الثاني رعاية الكرازة المرقسية التي امتدت إلي كل قارات العالم ولقداسته برنامج طويل ومتسع لزيارة كل رعيته في كل مكان.. في داخل البلاد يزور إيبارشية إيبارشية, وكنيسة كنيسة, ودير فدير.. وخارج البلاد حيث يتواجد الأقباط في كل بلاد العالم.. وشاهدنا مع قداسته في سنوات حبريته رسامات أساقفة وكهنة بصورة لم نعهدها, وتدشين كنائس وتعمير أديرة بأعداد لم نتوقعها.. كان هذا هو الامتداد الطبيعي للخدمة والرعاية الكاملة للبابا الراعي.. عن هذا قال لي قداسته في أحد الحوارات:
أنشأنا عددا من الإيبارشيات داخل مصر وخارجها لأن وجود إيبارشية هو الشكل الكنسي النهائي للخدمة, فالخدمة تبدأ صغيرة مع وجود عدد محدود من الأسر يخدمهم كاهن منتدب, وكلما زاد عددهم صار لهم كاهن, ومع الأيام وزيادة عدد الأسر يصير لهم كاهنان أو ثلاث, وبعدها تصبح الكنيسة عدة كنائس في المنطقة.. وهنا لابد أن يكون لهم أسقف لتنظيم الخدمة التي بدأت صغيرة وكبرت مع الأيام.. في الداخل أنشأنا إيبارشية في الوادي الجديد بعد 8 قرون, وقسمنا إيبارشية الجيزة إلي ثلاث إيبارشيات, ومدينة المنيا إلي ثلاث إيبارشيات.. وفي الخارج أنشأنا إيبارشية في هولندا, وفي اليونان, وفي كندا إيبارشيتين ومقر لرئاسة الكنيسة.
بهذه الرؤية للأب الراعي عشنا مع قداسته في كل عام من سنوات حبريته سيامة أساقفة جدد وأحيانا أكثر من سيامة في العام الواحد.. ولأن كنيستنا تري في ميلاد أسقف جديد ميلاد رسول جديد تفرح به السماء فقد عشنا مع البابا تواضروس علي امتداد عشر سنوات فرحة السماء مرات ومرات هي بالأرقام 12 سيامة رقي فيها 14 مطرانا وجلس 21 أسقفا وسام 8 أساقفة رؤساء لأديرة و23 أسقفا لإيبارشيات و31 أسقفا عاما فرحت بهم السماء, وفرحنا معها, فمع كل رسامة نري انتشار الكرازة ونمو الكنيسة.. ومع الفرحة كان يراودني دائما سؤال:
كيف يري قداسة البابا تواضروس الأسقف, وكيف يختاره؟!.. سؤال طرحته مرات في حواراتي مع قداسته كلما تصادف أن جاء الحوار مع رسامات جديدة.. ومن خلال إجابات قداسته تبلورت الصورة.
الأسقف هو أب الكهنة والخدام والشعب, هو يتسلم الحب الأبوي من ربنا يسوع المسيح ويقدمه حبا خالصا بروح الأبوة العظيمة لكل أحد.. واختيار أسقف مهمة صعبة فمسئولياته وعمله مؤثر جدا في حياة الرعية.. الأكثر صعوبة هو اختيار الأسقف في المكان المناسب.. في كل مرة نختار أسقفا جديدا ندرس تفاصيل الإيبارشية إلي درجة الرجوع إلي خرائط المساحة لمعرفة أبعادها وعدد كنائسها وآبائها وأفرادها, فاختيار أسقف لإيبارشية كبيرة مثل أسوان غير اختيار أسقف لإيبارشية صغيرة مثل بني مزار.. واختيار أسقف لإيبارشية في حاجة إلي تعمير ليس كاختيار أسقف لإيبارشية في حاجة أكثر إلي رعاية وافتقاد.
* أيام الفرح.. في حياة البابا
في أحد لقاءاتي مع قداسة البابا تواضروس الثاني, أهداني كتابا لقداسته عنوانه افرحوا وهو رحلة روحية لقداسته مع رسالة بولس الرسول التي كتبها إلي أهل فيلبي واضعا أمامهم خبرته الروحية والتي لخصها في الآية: افرحوا في الرب كل حين, وأقول أيضا افرحوا.. وفي قراءاتي للكتاب رأيت البابا تواضروس يدعو إلي الفرح.. يقول قداسته: إن كلمة إنجيل معناها البشارة المفرحة.. والفرح هو الهدف الإنجيلي وراء كل ممارسة روحية نقوم بها.. نحن نصلي لكي نفرح, نقرأ الإنجيل لكي نفرح, نسبح لكي نفرح.. نصوم لكي نفرح, فالفرح هو القصد الأخير الذي نريد أن نصل إليه.. وظلت كلمات قداسته عالقة في ذاكرتي.. وعندما جلست منذ أيام إلي قداسته مهنئا بالعيد العاشر سألت عن أقرب الأيام إلي قلبه فرحا علي امتداد سنوات حبريته.. أجابني علي الفور:
يوم تدشين الكاتدرائية المرقسية, دائما ما تطوف أمام عيني صورة هذا اليوم, أكثر من مائة مطران وأسقف يدشنون كاتدرائية عمرها 50 سنة.. ويرتبط هذا اليوم في ذاكرتي بيوم آخر فرح فيه قلبي.. كنا في ليلة عيد الميلاد 2017 ولم تكن مضت علي أحداث البطرسية سوي أيام.. وخرجت أستقبل الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي جاء يهنئنا بعيد الميلاد.. أشرت لسيادته إلي الكنيسة البطرسية التي تركت في نفوسنا حزنا عميقا, واعتذرت له عند الدخول من وجود سقالات داخل الكاتدرائية لأننا نجددها احتفالا بمرور خمسين عاما علي إنشائها العام القادم.. بفرح قال لي: وأنا راح أقول لكم الليلة علي مفاجأة ولما تحدث داخل الكاتدرائية أعلن عن بناء أكبر كنيسة ومسجد في مصر بالعاصمة الإدارية, ونحتفل بالافتتاح العام القادم.. يومان ارتبطا ببعضهما, وكانا أكثر الأيام فرحا في سنوات خدمتي, ومازلت أتذكرهما بكل فرح.
انتهت كلمات قداسة البابا, وخرجت أبحث في كتاباتي عن مصدر فرح البابا الراعي.. علي صفحات وطني وجدت كلماتي التي أبحث عنها:
18 نوفمبر 2018.. يوم سيظل في ذاكرتي وفي ذاكرة كل المصريين
3 هاتور 1735.. يوم سيسجل في تاريخ الكنيسة القبطية علي صفحات السنكسار.. يوم ليس ككل أيام.. يوم دخل فيه عطية الله البابا تواضروس الثاني البطريرك الـ118 إلي الكاتدرائية المرقسية في موكب مهيب يحيط بقداسته 109 مطارنة وأساقفة يحملون قارورات زيت الميرون لتدشين مذابحها وأيقوناتها وحتي اللوحة الرخامية التي تحمل تاريخ هذا اليوم.. الكاتدرائية التي عرفناها علي امتداد 50 سنة تغيرت وكستها ألوان السماء وتزينت بالأيقونات, امتدت لها يد فنان مبدع عرفته عن قرب لست سنوات مضت فلم يكن غريبا أن أري الكنيسة في حبريته قطعة من السماء علي الأرض.
وعن كاتدرائية ميلاد المسيح, أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط, بنيت وافتتحت في عام واحد فوق أرض العاصمةا لجديدة لمصر المحروسة بالإرادة السياسية, وصلوات البابا الراعي.. عن الكاتدرائية التي أفرحت قلب قداسة البابا تواضروس الثاني كتبت علي صفحات وطني:
7 يناير 2018
29 كيهك 1734
عيد الميلاد المجيد
رئيس البلاد.. وقداسة البابا تواضروس الثاني البطريرك الـ118 خليفة مارمرقس الرسول.. وكل شعب مصر.. يحتفلون بعيد الميلاد هذا العام في أكبر كاتدرائية.. كل عام نحتفل بميلاد ربنا يسوع المسيح المتأنس بالجسد من العذراء البتول القديسة مريم.. وتتوالي الأيام ولأكثر من ألفي عام بحساب الزمن ونحن نعيد في هذا اليوم بميلاد المسيح.. لكن هذا العام -2018- كان للعيد علي أرض مصر فرحة كبيرة في قلوب المصريين.. وسيذكر التاريخ أن رئيس البلاد عبدالفتاح السيسي وقداسة البابا المعظم الأنبا تواضروس الثاني, بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية, وكل شعب مصر, احتفلوا هذا العام بعيد الميلاد المجيد في أكبر كاتدرائية بالشرق الأوسط في العاصمة الجديدة للبلاد.
البابا الوطني
الأيام الصعبة.. وقوة الصلاة
اليوم يكون قد مضي عشر سنوات علي مجيء البابا تواضروس الثاني إلي الكرسي المرقسي بطريركا للكرازة المرقسية ورئيسا للكنيسة القبطية أقدم الكنائس المسيحية علي وجه الأرض.. جاء في وقت من أصعب الأوقات علي البلاد وعلي الكنيسة, تسلم عصا الرعاية في 18 نوفمبر 2012 ومصر تعيش أعلي النبرات الطائفية وتواجه تحديات الجماعات الإرهابية.. لم يكن قد مضي خمسة شهور لحكم جديد للبلاد في مرجعية دينية إسلامية.. وبعد شهر من دخوله المقر البابوي هاجموا أرض الأنبا رويس عقب جنازة شهداء الخصوص… عن هذه الأيام الصعبة وكيف تعامل معها البطريرك الـ118 قال لي قداسته في أحد حواراته:
تمسكت بحكمة الصمت والصمود المستمدة من تاريخ الكنيسة المصرية ووطنيتها, وتمسكت بضبط النفس بمثالية مسيحية, فالمسيحي يضطهد فيبارك يري إنسانا آخر يكرهه فيبادله الحب, وحتي الذين يسيئون إلينا نصلي من أجلهم, لكن عيني كانت علي الكنيسة, وعلي الوطن, لأن قوة الكنيسة ونجاحها هو قوة ونجاح المشروع الوطني كله, وحكي لي قداسة البابا أنه وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر كانا يستشعران خطورة الموقف, وأن مصر في وضع تحيطه علامات استفهام كثيرة, والبلاد في أعلي درجات الغليان وعلي أهبة الاستعداد للقيام بثورة تحدد لها يوم30 يونيو, فطلبا موعدا مع الرئيس الذي بدا مؤكدا أنه يقود البلاد بتوجيهات من مكتب الإرشاد وجماعة الإخوان المسلمين, وفي الموعد الذي تحدد ذهبا ليتحدثا معه في محاولة للوصول إلي وفاق وطني ينقذ البلاد, وكانا يتصوران يومها أن هذا اللقاء سيضع الأزهر والكنيسة في قلب المشاركة الوطنية والحفاظ علي سلامة مصر, لكنه بدا لهما أنه لا يدرك ما هما يدركان, وأنه ليست ثمة خطورة علي البلاد, لكن قداسته كان يستشعر الخطر, عن هذا قال لي:
0 كلما اقتربنا من 30 يونيو كنت أستشعر صعوبة الأيام القادمة, لكن كانت تغالبني ثقة أن الله سيرتب كل الأمور للخير, وفي عظة الأربعاء- 26 يونيو- أرسلت رسالة طمأنينة لأقباط مصر, وذهبت إلي بيت بالقرب من كينج مريوط كنت أقضي فيه أيام خلوة وأنا أسقف أخدم البحيرة, ذهبت أصلي ورفعت صلوات كثيرة إلي الله ليرفع عن كنيسته هذا البلاء فرفعه الله عن مصر كلها.
ما قاله لي قداسة البابا تواضروس الثاني عن هذه الأيام الصعبة أكد لي أنه حقا عطية الله أرسله الرب في الوقت المناسب ليقود شعبه بحكمة واتزان ويتخطي به كل الصعاب, ويضيف إلي تاريخ باباوات الإسكندرية بطريركا جديدا ممن ساقتهم أقدارهم إلي مبادرات إيجابية أسهمت في دفع قاطرة الحراك الوطني المصري للأمام, وهو ما كشفته الأيام التالية عندما تلقي قداسته وهو في خلوته مكالمة تليفونية تدعوه لاجتماع مع القائد العام للقوات المسلحة, ولم يفكر في الأمر كثيرا فقد استكمل المتحدث الدعوة بأن أخبره أن طائرة خاصة تنتظره بمطار برج العرب, وبعد أقل من ساعة كان قداسته داخل الاجتماع التاريخي مع المشير عبد الفتاح السيسي, وجمع من أطياف القوي الوطنية, وفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر, وهو الاجتماع الذي عرف سياسيا بـخارطة الطريق ففيه تناقشوا في كل أوضاع البلاد ووضعوا خارطة للطريق تنقذ البلاد, وصدر عنها بيان المجلس العسكري بعزل الرئيس محمد مرسي وتولي المستشار عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية مهام رئيس الجمهورية, لكن قوي الشر كانت تترصد بالبلاد, وبعد فض الاعتصامات في ميداني رابعة العدوية والنهضة تعرضت كنائس المسيحيين وممتلكاتهم لهجمة شرسة, وبإيمان كامل ووطنية خالصة واجه البابا تواضروس الثاني الموقف, وكانت مقولته الشهيرة وطني بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن.
وطنية الكنيسة.. وحركة الوطن
الموقف الوطني للبابا تواضروس الثاني لم يغب عن عيني وعين كل المصريين طوال سنوات حبريته, ومع كل حدث جديد علي امتداد السنوات العشر الماضية كانت تتأكد وطنيته, وهو ما دفعني في أحد حواراتي أن أسأله عن سر هذا الحب الكبير لمصر الوطن يومها قال لي:
0 الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنيسة وطنية حتي النخاع, يشهد بذلك تاريخها علي مدار عشرين قرنا من الزمان, وتاريخ باباواتها معروف ولا يحتاج لدليل, فهو خط ثابت مستقيم لا تحيد عنه مهما تغيرت الأجواء وتعاقبت الأجيال, إننا نصلي كل يوم من أجل العباد والبلاد واثقين أن الله يحفظ مصرنا وشعبها بكل خير وفرح وسلام فلمصر خصوصية فريدة لأنها تحت رعاية خاصة من الله الذي حباها بالبركة الصريحة في سفر إشعياء النبي مبارك شعبي مصر, هي بالتأكيد تخضع للقوانين الإلهية قبل أن تنطبق عليها القوانين الأرضية, يد الله فقط هي التي تضبط حياة مصر التي عاش علي أرضها السيد المسيح والعذراء مريم.
واليوم ونحن نحتفل بالعيد العاشر لحبرية البابا تواضروس الثاني أري أنه بالمحبة الفياضة التي تملأ قلب قداسته, والحكمة التي تقود فكره استطاع تغيير علاقة الدولة بالكنيسة وتصحيح مسار حركة الوطن بعد سنوات عاشها الأقباط في مناخ يرفض الآخر إلي حد الاضطهاد والاستشهاد, وأن هناك تحسنا كبيرا في أوضاع الأقباط, فلأول مرة يصدر قانون لبناء الكنائس بعد 160 عاما كانت الكنائس تبني وسط شروط تعسفية تحت اسم الخط الهمايوني, ولأول مرة يشهد تمثيل المسيحيين بالمجالس النيابية والمناصب القيادية بالدولة زيادة غير مسبوقة.