لم ينل أحد من رجال الكتاب المقدس في العهد القديم أو الجديد ما ناله داود النبي فهو مرنم إسرائيل الحلو وصاحب قيثارة الروح في العبادة الحارة في الهيكل والكنيسة. وهو المسمى باسمه كرسي وعرش ملكوت اللـه في القديم، ومنه المسيح الذي صار وريثاً حسب الجسد لداود أبيه.
وهو صاحب أكثر الصفات في العهد القديم فهو راعي الغنم والموسيقي والشاعر، "وأما الآن فمملكتك لا تقوم. قد انتخب الرب لنفسه رجلا حسب قلبه، وأمره الرب أن يترأس على شعبه. لأنك لم تحفظ ما أمرك به الرب" (1صم 13: 14)، والبطل المنقذ لشعبه والنبي والملك وأحد كتاب العهد القديم "سفر المزامير".
وداود اسم يعني محبوب، وهو ابن يسي البيتلحمي، وهو الأصغر بين أخواته الثمانية، وهو من نسل راعوث المؤابية التي تزوجت بوعز وأنجبت منه عوبيد كما جاء في سفر راعوث. وفي حياة داود النبي مراحل كانت يد الرب معه في كل أيام حياته.
المرحلة الأولى حيث كان صبيا وكان أشقر مع حلاوة في العينين وكان راعياً لغنم أبيه. وكان يرعى الغنم وهو يحمل القيثارة والمزمار مع المقلاع ليدافع به عن الغنم من الذئاب.
وكان يرنم ويصلي ويعزف للرب ألحانه وفي نفس الوقت عيناه يقظتان تلاحظ الطريق، فالتأمل والعمل لا يفترقان. وكان هذا الراعي يرعى الغنم في بيت لحم لنرى فيه ملامح المسيح الذي ولد في بيت لحم وسط تسابيح الملائكة.
وكانت هذه القرية قد حفظت تسابيح ومزامير داود لترددها حين يولد فيه الحمل الحقيقي فهذه هي مدينة داود التي ولد فيها المسيح فحضر الرعاة والملائكة تسبح. وكأنها كانت نبوة حياتية على يد داود النبي الراعي والمسيح في حقول بيت لحم.
ويقول يوسيفوس عن داود النبي: "إنه كان يصنع الآلات الموسيقية وكان يعلم اللاويين في الهيكل عزف الألحان ويحفظهم المزامير".
فلقد كانت التسابيح لا تفارقه منذ صغره حتى انتقل من الأرض، وكان قلبه وروحه المشغولة بالحب الإلهي هو الذي جعل الرب يختاره فيما بعد ملكاً.
وبالرغم من شخصيته الرقيقة إلا أنه كان شجاعاً قوياً فقد دافع عن الغنم وقتل أسداً ودباً، "وقال صموئيل ليسى: هل كملوا الغلمان؟ فقال: بقي بعد الصغير وهوذا يرعى الغنم. فقال صموئيل ليسى: أرسل وأت به، لأننا لا نجلس حتى يأتي إلى ههنا" (1صم 16: 11).
"قال داود لشاول: كان عبدك يرعى لأبيه غنما، فجاء أسد مع دب وأخذ شاة من القطيع، فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فيه، ولما قام علي أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته. قتل عبدك الأسد والدب جميعا. وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما، لأنه قد عير صفوف الله الحي. (1صم 17: 34-36).
والمرحلة الثانية بدأت بإرسال الرب لصموئيل النبي ليمسحه ملكاً في بيت أبيه في بيت لحم. ثم فارق روح الرب شاول الملك وباغته روح رديء وكان يصرعه ويتعبه، فطلب أن يأتوه بأحد العازفين والمرنمين فأشاروا عليه بداود النبي الذي كان قد اشتهر بألحانه وعزفه الجيد، وفعلاً كان حين يرنم له ويعزف ألحانه يهدأ الملك وأصبح محبوباً لديه.
وذات يوم هاجم الفلسطينيين الشعب وكان قائدهم جليات الجبار الذي كان مرعباً لكل الشعب. وسمع داود النبي تعييراته وتعديه على الرب، فغار في داخله وأخد مقلاعه وذهب إليه، فسخر منه جليات، فقال له: "أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم." (1صم 17: 45) وقتله داود النبي وانتصر الشعب وأصبح بطلاً يتغنى الشعب بشجاعته فغار منه شاول الملك وبدأ الصراع معه وطلب أن يقتله.
فهرب من وجه الملك وذهب إلى الرامة وسط الأنبياء ثم هرب خارج الحدود في لخيش إحدى بلاد الفلسطينيين، وهرب أيضاً في مغارة بجوار بيت لحم.
وكانت هذه أكثر الأوقات التي كتب فيها مزاميره التي كان يصرخ بها للرب ويسبح ويرنم وسط الضيق فقد كانت صرخاته مزامير، وحول ضيقاته إلى تسابيح، ودموعه إلى ذبيحة صلاة.
وظل هكذا حتى دخل الفلسطينيين أطراف المملكة وجرح شاول في الحرب ومات. وصار داود النبي ملكاً على يهوذا وكان عنده 33 سنة وهي نفي السنة التي ملك فيها السيد المسيح بالصليب على ملكوته.
ونقل تابوت الرب إلى أورشليم لتكون مدينة الرب وملكوته الأرضي. وبدأ في بناء بيتاً للرب ولكن الرب رفض أن يبني هو الهيكل وقال له: "فكان إلى كلام الرب قائلا: قد سفكت دما كثيرا وعملت حروبا عظيمة، فلا تبني بيتا لاسمي لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض أمامي" (1أخ 22: 8) فقد خاض حروباً وسفك دماء لم يوافق عليها الرب ولهذا السبب لم يرضي أن يبني هو الهيكل.
وقد صار داود النبي ملكاً على كل الأسباط وأخضع له كل الشعوب المحيطة له وكانوا يرسلون إليه الجزية والهدايا علامة الخضوع له. وبالرغم من انتصاراته الدائمة على كل أعدائه ولكنه في حالة ضعف هزم من شهوته وسقط في خطيئة الزنا والقتل، ولكنه قدم توبة قوية وكان مثالاً للتوبة والصلاة والدموع بعدما اعترف بخطيئته أمام ناثان النبي.
وقبل الرب توبته ولكنه واجه ضيقات كثيرة بعد هذا فقد اغتصب أمنون أخته ثامار، وثار عليه أبشالوم ابنه ليغتصب عرش أبيه وجمع حوله متمردون وهاجم أبيه حتى اضطر للهروب من وجه ابنه وكان متقدماً في السن ومريضاً، ولكن مات أبشالوم وحزن عليه داود جداً. ثم كانت أخر عشرات سنوات في حياته هادئة، ومرض وانتقل من الأرض وهو في سن السبعين.
وداود له مكانة كبيرة في العهد الجديد أيضاً ففي بشارة الملاك للعذراء قال لها أنه يملك على كرسي داود وكان يوسف النجار أيضاً من بيت داود.
وقد تكلم عنه السيد المسيح كثيراً فقد استخدم حادثة أكله لخبز الوجوه حين جاع: "فقال لهم: أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؟ كيف دخل بيت الله في أيام أبيأثار رئيس الكهنة، وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة، وأعطى الذين كانوا معه أيضا" (مر 2: 25، 26)
وقال كما كتب عني موسى والأنبياء: "وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم: أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" (لو 24: 44)
وأستخدم النبوة التي قالها: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك" (مت 22: 44) ليعلن لاهوته إذ قال كيف يقول عنه أنه ربه وهو ابنه بالجسد.
وبعد الأفخارستيا في خميس العهد سبح المزامير مع تلاميذه، وعلى الصليب قال: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (مز 22) ليشير إلى تلك النبوة أيضاً التي كانت يصف فيها الصليب. وكانت عظات الرسل لا تخلو من نبوات المزامير.
وداود النبي ينسب إليه سفر المزامير بالرغم من أنه كتب 77 مزمور فقط ولكنه هو الذي علم اليهود التسابيح وقد أسس مجموعات للعزف وآخرون للتسبيح وكان روح الرب يحل وقت التسابيح، ولهذا دعي السفر باسمه.
وفي الكنيسة لا نزال نصلي ونسبح بمزامير داود فمزمور الخمسين الخاص بالتوبة مصاحب لكل صلواتنا. وفي التسبحة اليومية نصلي الثلاثة أهواس من المزامير، والمزامير تسبق أناجيل رفع البخور في العشية وباكر وفي القداس إذ هي لسان حال الكنيسة في التسابيح والطلبات فهي عاطفة الصلاة الجماعية كما يقول بولس الرسول: "متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور" (1كو 14: 26)
وفي نهاية القداس نقدم للعريس مزمور الفرح في العرس الإلهي بمزمور "سبحوا اللـه في قدسيه" (مز 150). وفي الصلوات اليومية المزامير هي لغة الصلاة في السبع صلوات التي تسمى الأجبية، وفي ألحان القداسات أيضاً بها مزامير، بل كل الصلوات الطقسية فيها مزامير.
ويقول القديس أوغسطينوس: "كم بكيت أثناء التسبيح والألحان متأثراً بالأصوات المتناغمة في الكنيسة".
ويقول القديس أمبروسيوس الذي كان موسيقيا كبيرا حول "التسبيح باللحن الذي لا يثير الأعصاب إنما يعضد العقل والنفس".