بقلم الأنبا موسى
لاشك أن العلم ضرورة، فهو أساس لحياة الإنسان من كل زواياها: الروحية، والفكرية، والنفسية، والجسدية، والاجتماعية. ومن الله للإنسان: كَلاَمُ حِكْمَةٍ.. كَلاَمُ عِلْمٍ (1 كو 8:12).
لأنه اللوغوس (الكلمة) فهو النور والفكر، وكنوز المعرفة والعلم. إذ مكتوب عن إلهنا المحب: الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ (كو 3:2).
والرسول بولس قال عن نفسه: وَإِنْ كُنْتُ عَامِّياً فِى الْكَلاَمِ فَلَسْتُ فِى الْعِلْمِ (2 كو 6:11) أى أن كلامه بسيط، والرب أعطاه علمًا غزيرًا. وقد أوصى تلاميذه أن يتشبهوا به فِى طَهَارَةٍ، فِى عِلْمٍ (2 كو 6:6)... وقد وصف تلاميذه فى رومية بأنهم مَشْحُونُونَ صَلاَحاً وَمَمْلُوءونَ كُلَّ عِلْمٍ (رو 14:15). والعلم هو موهبة من مواهب الله للإنسان، كما فى قوله: أَنَّكُمْ فِى كُلِّ شَىْءٍ اسْتَغْنَيْتُمْ فِيهِ فِى كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ عِلْمٍ (1 كو 5:1). ومع أهمية العلم رفع الرسول بولس المحبة فوقه حين قال: إِنْ كَانَتْ لِى نُبُوَّةٌ، وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ لِى كُلُّ الإِيمَانِ، حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِى مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً (1 كو 2:13).
■ ■ ■
ثانيًا: الحاجة إلى العلم:
هناك احتياج إنسانى لعلوم كثيرة، مثل:
1- العلوم الروحية: وهى أساسية لإشباع الروح الإنسانية، وإنارة الفكر البشرى، من حيث معرفة الخالق، وكيف جاءت الخليقة؟ وفى أعماق الإنسان جوع مطلق وعطش غير محدود! ولا يشبع هذا الجوع غير المحدود إلا كائن غير محدود، وهو الله! ولو وضعنا العالم كله (الكرة الأرضية) فى قلب الإنسان المثلث، فستظل زوايا مثلث القلب فارغة! ولا يشبع قلب الإنسان إلا الله غير المحدود.
لذلك فعلوم اللاهوت والعقيدة هى احتياج جوهرى فى قلب الإنسان، ليروى عطشه غير المحدود!
2- العلوم الفكرية: فكل إنجازات العقل البشرى الذى وهبه لنا الله، هى احتياج لا يشبعه سوى الله تعالى. إنها الحاجة إلى المعرفة، التى نلحظها فى الطفل الرضيع: إيه ده يا ماما؟ مين ده يا بابا؟... ويحاول أن يتعرف على كل شىء من خلال فمه! ثم ينمو شيئًا فشيئًا، من سنتى المهد، حيث تتكون لديه:
أ- ثقة فى نفسه وفى الناس، بسبب الحنان وحسن المعاملة.
ب- إلى مرحلة الاستقلال.. فى فترة الحضانة (من 3-5).
ج- إلى مرحلة الإنجاز (فى المرحلة الابتدائية).
د- ثم مرحلة الإيمان فى المرحلة الإعدادية، حيث تتكون لديه المنظومة الإيمانية الخاصة به.
هـ- إلى مرحلة الذات فى المراهقة، بعد النضوج الجسدى.. ويستحسن أن ندعوها مرحلة تكوين الشخصية.
و- وفى الجامعة نجد مرحلة الصداقة الوثيقة بينه وبين بعض أفراد الجنسين.. ويحاول أن يختار شريك الحياة فى هذه المرحلة التى تدعى الجنسية الغيرية العامة، أى أنه يفكر فى أكثر من شخص من الجنس الآخر، وبعد التخرج يدخل إلى مرحلة الجنسية الغيرية الأحادية ليختار شريك الحياة!
أما بعد التخرج فنجد مرحلة الخصوبة: حيث النجاح الدراسى: ماجستير أو دكتوراه... والنجاح العلمى: حيث ينجح فى عمله، ويطوره إلى الأفضل، ثم النجاح الروحى: إذ ينمو فى خدمة الآخرين.. وأخيرًا النجاح الاجتماعى: حيث يكوّن علاقات ناجحة مع المجتمع المحيط به، من الأسرة إلى المدرسة والكلية، ودور العبادة، والمجتمع.
ولاشك أن فى هذه المراحل جميعها، ينمو الإنسان فكريًا من خلال القراءة، والثقافة والتأمل فى الأحداث، والتفاعل مع الآخرين.
3- العلوم النفسية: إذ يحتاج الإنسان إلى أن يسبر أغوار نفسه، فيعرف ما فيها من سلبيات وإيجابيات نفسية، وذلك من خلال: التأمل الداخلى، والاستماع إلى آراء ونقد الآخرين. لذلك يجدر بالإنسان أن يتعرف على معطيات علوم النفس والتربية، والاستفادة التطبيقية من ذلك.
ولذلك نقدم لخدام الشباب فى مركز تدريب الخدام دراسات نفسية هامة، من خلال أساتذة علم نفس وأطباء نفسيين متخصصين، لكى يتعرفوا بصورة عامة على ملامح النفس السليمة، وبدايات المتاعب النفسية، وهذا فى غاية الاهمية. فقد حدث أن البعض تعامل مع المريض نفسيًا كأنه سليم يعاند ويشاغب، فازدادت حالته سوءًا. فالمعرفة العامة تساعد على التوقع أن هذا الإنسان فى حاجة إلى تدخل طبيب نفسى متخصص، والطبيب النفسى-عموماً- يستعين برجل الدين فى علاج مرضاه، دون إباحة أسرار، بل مجرد تعاون علمى.
4- العلوم الجسدية: معطيات الصحة العامة، من نحو الغذاء، والرياضة، ومتابعة أى عرض قبل أن يتحول إلى مرض مستحكم! وكذلك معرفة الجسم الإنسانى ووظائف أعضائه، فالله كامن فى كل خلية فينا، وعضو، وهو سر الوجود ومانح الحياة.
5- العلوم الاجتماعية: إن دراسة التفاعل السليم داخل الأسرة، وتكوين علاقات صحيحة مع الوالدين والإخوة والأخوات، أمر هام لنمو الإنسان روحيًا ونفسيًا وإنسانيًا! لذلك يجب أن ندرس العلاقات داخل الأسرة.. مع الوالدين، والأخ الأكبر، والأصغر، والأخت... إلخ. ثم إذ يخرج الطفل إلى الحضانة، ويستقل بنفسه، وفى انتقاله إلى المرحلة التالية يكوّن منظومته الإيمانية، ثم شخصيته المتكاملة.
■ ■ ■
واضح- إذن- ضرورة أن نلجأ إلى العلم فى سبيل ما يلى:
1- التعرف على هذه العلوم كثقافة عامة.
2- التعرف على النفس، وقبول الشخصية بما فيها من سلبيات وإيجابيات، ومحاولة الإكثار من الإيجابيات، وتخفيض السلبيات!
3- التفاعل المجتمعى.. فى دائرة محدودة: هى الأسرة، ودائرة أوسع: هى الأصدقاء... ودائرة عامة: هى المجتمع الإنسانى المحيط بنا.. ودائرة أكثر اتساعًا: هى الإنسان بصفته إنسانًا، فأحس بإخوتى فى أماكن المجاعات والفقر.. أو أماكن الحروب والقهر... أو أماكن الكوارث الطبيعية والأوبئة... فمن منا لا يتألم لذلك؟! ولكنها الصدمة التى تجعلنا نستفيق ونتعرف على الخالق.
4- إعلاء قيمة العلم والعلماء.. فهم العين التى بها تبصر البشرية، وتتفحص الواقع، استشرافًا للمستقبل! وذلك- بالطبع- لكل واحد فى تخصصه... علوم: الروح، والعقل، والنفس، والجسد، والعلاقات.
5- تهديف الحياة: فالإنسان الذى يسير فى حياته بدون هدف سيسقط سريعًا وصريعًا!
الهدف يعطى معنى للحياة، وخطة للسير، وبوصلة للتوجه، وطاقة للحركة، وتحقيقا للنفس وللوجود!
وهكذا يضع الإنسان لنفسه أهدافًا مرحلية تساعده فى طريقه إلى الأبدية، فيختارها بعناية، ويحاول تحقيقها بجهد وإصرار، وبحسن توقيت واختيار! مثل: الانتهاء من الدراسة، والعمل، والزواج، والإنجاب، وتطوير الحياة إلى الأفضل، وخدمة الآخرين.
■ ■ ■
كيف يمكن أن يتحقق كل ذلك دون علم؟! بل دون علوم متخصصة؟!
من هنا كان العلم ضرورة لا رفاهية، لأن بدونه تصير الحياة مظلمة، وتسير من ظلام إلى ظلام.. فبالثقافة الدينية والعامة نستنير وننير الطريق للآخرين.
* أسقف الشباب العام
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية