
في خطوة تعكس الأهمية المتزايدة للسياحة الدينية كأحد أبرز روافد الاقتصاد السياحي، سجلت الدورة التدريبية المكثفة التي نظمتها غرفة شركات ووكالات السفر والسياحة بالتعاون مع الكنيسة الأرثوذكسية في مركز المنارة بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية، إقبالًا واسعًا من الشركات السياحية، وذلك ضمن مبادرة متكاملة تهدف إلى إحياء “مسار العائلة المقدسة” والترويج له كمنتج سياحي روحي فريد على مستوى العالم.
جاءت الدورة تحت رعاية قداسة البابا توا ضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وفي إطار رؤية سياحية متكاملة لإحياء المسار الذي يمثل كنزًا تاريخيًا ودينيًا وإنسانيًا لا يُقدّر بثمن، ويُعد من أندر أنماط السياحة الدينية التي تنفرد بها مصر
كما تأتي في إطار الاهتمام الكبير الذي يوليه مجلس إدارة غرفة شركات السياحة برئاسة الدكتور نادر الببلاوي لتأهيل كافة الشركات للعمل في الأنشطة السياحية المختلفة لزيادة مردود القطاع السياحي على اقتصادنا القومي
وتهدف الدورة إلى تأهيل الكوادر السياحية، خاصة من الشركات الصغيرة والمتوسطة، عبر تزويدهم بالمعرفة الدقيقة حول مراحل ومحطات المسار الممتدة من سيناء إلى الدلتا وصعيد مصر، فضلًا عن الخلفيات الدينية والتاريخية وآليات الترويج الاحترافي داخليًا وخارجيًا.
تاريخ وحضارة وقيم إنسانية
افتتحت الدورة التدريبية بمحاضرة بعنوان: “رحلة العائلة المقدسة: دراسة تاريخية… تأثيرات حضارية… قيم إنسانية”، قدّمها الأستاذ الدكتور إسحاق إبراهيم عجبان، أستاذ التاريخ القبطي وعميد معهد الدراسات القبطية.
بدأ الدكتور عجبان محاضرته بالتأكيد على أن مصر قد نالت بركة إلهية فريدة مع مطلع القرن الأول الميلادي، حين قدمت إليها العائلة المقدسة من أرض فلسطين، فلقيت في ربوع وادي النيل، وعلى روابي مصر ووديانها وضفاف نيلها العظيم، الأمن والأمان.
وقد استقبلت مصر، في خشوع ووقار، أعظم زائر في تاريخها، فنالت بركة فريدة تُوّجت بالآية الكتابية: “مبارك شعبي مصر” (إشعياء 19: 25).
وصف الدكتور عجبان هذه الرحلة بأنها من أعظم الأحداث التي شهدها التاريخ المصري، لما تركته من آثار روحية وحضارية وإنسانية عميقة، تلاها تراكم تراثي هائل في الفكر والثقافة والفن والتاريخ والآثار
وأكد أن رحلة العائلة المقدسة أصبحت علامة مميزة لمصر، لا يشاركها فيها أي بلد آخر، فهي الأرض التي جمعت بين التنوع الروحي، والثراء الفكري، والزخم الحضاري، والإبداع الفني، والابتكار العلمي، مما منحها دورًا رائدًا في حماية قيم التعددية والتسامح والتعايش المشترك عبر العصور.
وأشار إلى أن الرحلة المباركة للعائلة المقدسة تستند إلى ثلاثة أبعاد رئيسية تجعل منها حقيقة راسخة: فهي حقيقة كتابية، تؤكدها نبوءات العهد القديم وسفر إنجيل متى في العهد الجديد؛ وهي أيضًا حقيقة تاريخية موثقة في الميامر والمخطوطات القبطية، مثل ميمر البابا ثاؤفيلس، وميمر البابا تيموثاوس، وميمر الأنبا زخارياس، بالإضافة إلى ما ورد في السنكسار والدفنار وشهادات المؤرخين والرحالة؛ وهي كذلك حقيقة أثرية تجسدت في المغارات والأديرة والكنائس التي تأسست على خطى هذه الرحلة، والآبار التي تفجرت مياهها، والأشجار التي ظللتها، والأحجار التي شهدت عبورها.
كما بيّن الدكتور عجبان التفرقة بين التراث المادي وغير المادي المتعلق بالرحلة، موضحًا أن التراث المادي يتمثل في الآثار الملموسة مثل المغارات والأديرة والكنائس، أما التراث غير المادي فيتجلى في الروايات الشعبية، والاحتفالات، والألحان، والعادات والتقاليد والفنون المرتبطة بنقاط المسار المقدس.
وأوضح أن هذه الرحلة تحمل في طياتها قيمًا روحية رفيعة، من أبرزها البركة الإلهية لشعب مصر، وتجسيد الصراع بين الخير والشر، حيث يظل الخير في نهاية المطاف هو المنتصر، رغم مطاردة الشر له. كما تعلّمنا من الرحلة حكمة الاتقاء من الشر، والإيمان بقوة التدبير الإلهي في مواجهة الشر الظاهر والخفي، والثقة بأن يد الله فوق جميع المؤامرات
وأبرز الدكتور عجبان القيم الحضارية التي تجسدت في الرحلة، من خلال التأثير الفكري والعقائدي، وتأسيس الكنائس والأديرة، وظهور الطقوس والاحتفالات والألحان التي ارتبطت بالمواقع التي باركتها العائلة المقدسة.
أما على المستوى الإنساني والقيم الإنسانية، فقد أظهرت الرحلة قدرة العائلة على تحمل المشقات، واحتمال التجارب، والهروب من الاضطهاد، مما يدفعنا اليوم إلى التفكير في المتألمين واللاجئين والنازحين، ويعلّمنا أن نكون سندًا لمن هم في محنة، ويذكّرنا بأن الإنسان يجب أن يقف دائمًا إلى جانب أخيه الإنسان، في كل زمان ومكان.
تنشيط السياحة هدف مهم
ومن جانبه تكلم أ. نادر جرجس رئيس لجنة السياحة والتراث المصري بالروتاري عن “مساهمة مسار رحلة العائلة المقدسة في تنشيط السياحة”، فقال: إن مسار العائلة المقدسة يمثل مشروعًا وطنيًا ذو بُعد روحاني وثقافي وإنساني، حيث يُجسد الرحلة التي قامت بها السيدة مريم العذراء والسيد المسيح، بصحبة يوسف النجار، والتي مكثوا خلالها في مصر لمدة تجاوزت ثلاث سنوات، مروا خلالها بأكثر من 25 موقعًا موزعة على 8 محافظات تضمنت: الفرما (شمال سيناء) – أولى المحطات بعد دخول مصر – تل بسطا (الزقازيق) – شربوا من بئر ماء هناك وسقطت الأوثان والأصنام – سمنود (الغربية) – حيث الماجور الجرانيت الذي خبزت في العذراء مريم – وادي النطرون (البحيرة) موطن الأديرة القديمة – كنيسة أبو سرجة (مصر القديمة) المغارة التي مكثت في العائلة المقدسة – المعادي (القاهرة) عبروا منها نهر النيل متجهين للصعيد – جبل الطير (المنيا) من أقدس المواقع المسيحية – دير المحرق (أسيوط) – أُقامت العائلة المقدسة فيه أطول فترة
وأوضح جرجس، أن الدولة المصرية، بالتعاون مع الكنيسة، تبذل جهودًا موسعة لتطوير مواقع المسار، تشمل ترميم الكنائس والأديرة التاريخية، وتحسين الطرق والبنية التحتية، وتعزيز التأمين للمناطق المستهدفة، وتأهيل الرهبان بلغات متعددة، وتوفير لافتات إرشادية للسائحين، والتعاون مع الفاتيكان لاعتماد المسار رسميًا كأحد مسارات الحج العالمية.
وأشار إلى أن البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان السابق، كان قد اعتمد الأيقونة الرسمية لمسار العائلة المقدسة وأدرج عددًا من مواقعه ضمن كتالوج الحج المعتمد لدى الفاتيكان في عام 2018، ما يمنح المسار شرعية دينية دولية ومكانة مرموقة على خريطة السياحة الدينية العالمية.
كما أن العلاقات الوثيقة بين الفاتيكان والكنيسة، وزيارة البابا فرانسيس لمصر عام 2017، شكلت نقاط تحول كبرى في دعم هذا المشروع الروحي، وترسيخ صورة مصر كأرضٍ مقدسة احتضنت الأديان السماوية الثلاثة.
برامج سياحية خارج الصندوق
وتأتى المحاضرة التالية لتشرح فيها أ.د. مارى ميساك – الأستاذ بكلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان، “مقترحات لبرامج سياحية متنوعة لزيارة المحطات على مسار رحلة العائلة المقدسة” حيث قدمت رؤية متكاملة ومبتكرة لتطوير البرامج السياحية الدينية في مصر، انطلاقًا من مسار العائلة المقدسة.
بدأت المحاضرة بعرض خريطة شاملة توضح المعالم التي زارتها العائلة المقدسة في مختلف أنحاء مصر، مشيرة إلى أن الهدف من تنوع هذه البرامج ليس فقط تعظيم الاستفادة من المحطات المباركة، بل دمجها أيضًا مع معالم سياحية غير تقليدية لا تدرج عادة ضمن المسارات المعتمدة حاليً
وشددت ميساك على أن مصر تزخر بكنوز سياحية لا مثيل لها في أي مكان آخر بالعالم، وهو ما يتطلب تصميم برامج سياحية مبتكرة. وأوضحت أن من الممكن تنظيم برامج قصيرة ليوم واحد تربط بين موقع على المسار ومعلم ثقافي أو حضاري قريب. فعلى سبيل المثال، يمكن دمج زيارة دير المحرق، حيث أقامت العائلة المقدسة لأكثر من ستة أشهر، مع مقابر مير ذات الطابع المصري القديم، لتقديم تجربة تجمع بين الدين والحضارة.
كما أشارت إلى محافظة المنيا، التي تحتوي على العديد من نقاط المسار، حيث يمكن دمج زياراتها بالأديرة الحديثة لإبراز التراث الرهباني والفن القبطي المعاصر. ويمكن تطبيق الفكرة نفسها في وادي النطرون والعلمين، عبر ربط الأديرة القديمة بالأخرى الحديثة
l6b45n