
يحتل القديس اثناسيوس الرسولي (“296 –373 “) مكانة هامة وكبيرة في تاريخ بطاركة الكنيسة القبطية بل وفي تاريخ المسيحية في العالم كله.
ويرجع ذلك إلى دوره الهام والرائد في مكافحة الأريوسية إذ كاد العالم كله أن يصبح أريوسيا لولا اثناسيوس. وقد قالوا له يوما ماذا تفعل ياأثناسيوس وقد صار العالم كله ضدك فرد وقال “وأنا قد صرت بنعمة المسيح ضد العالم” حتى لقب في كتب التاريخ بــ “اثناسيوس ضد العالم
ذهبت وطني للباحث ماجد كامل الذي سرد لنا حياته قائلًا:
سوف نتعرف على الظروف السياسية والثقافية لمدينة الإسكندرية ثم حياة اثناسيوس وكفاحه ضد الأريوسية.
أولا :- الظروف السياسية لمدينة الإسكندرية:-
كانت مصر إحدى ولايات الإمبراطورية الرومانية وهي إمبراطورية مترامية الأطراف. بدأت تحكم مصر بعد مصرع كليوباترا عام 30 ق 0 م ومع ظهور الملك قسطنطين انشأ مدينة القسطنطينية وغير اسمها القديم بيزنطة واعتبرها عاصمة الإمبراطورية الشرقية واستمرت كذلك حتى فتح محمد الفاتح مدينة القسطنطينية عام 1452 وتغير اسمها إلى اسطنبول وهي عاصمة تركيا حاليًا.
ثانيا :- الظروف الثقافية لمدينة الإسكندرية:-
كانت مدينة الإسكندرية مدينة عظمى متعددة الثقافات والجنسيات فكان يسودها الثقافة اليونانية من خلال مدرسة الإسكندرية ومكتبتها الشهيرة وكان يوجد بها جالية يهودية كبيرة ولهم حي شهير بها وبالطبع كان يوجد مصريون بها ويقيمون بقرية “راكوتي” المقر الأصلي لمدينة الإسكندرية وكان يوجد بها مراكز ضخمة لعبادة إيزيس وسيرابيس ………الخ. وأخيرا كان يوجد بها مدرسة الإسكندرية بآبائها اللاهوتيين العظام (اثيناغوراس – بنتينوس – كليمندس – اوريجينوس …..الخ ” حتى وصفت مدرسة الإسكندرية بـ “عقل العالم المسيحي”
حياة اثناسيوس
معني الاسم :-
كلمة أثناسيوس مكونة من مقطعين، المقطع الأول هو A وهو أداة النفي في اللغة اليونانية والمقطع الثاني هو THANIOS بمعني المائت فيكون معني الاسم هو غير المائت أو الخالد.
ميلاده وطفولته :-
يقع تاريخ ميلاده بين عامي “296 – 298 ” وفي طفولته كان يلعب على شاطئ البحر بالإسكندرية بالقرب من الكنيسة البطريركية لعبة المعمودية مع مجموعة من الأطفال فشاهدهم البابا الكسندروس “البطريرك آل 19 من بطاركة الكنيسة القبطية” فسر بهم وناداهم وتنبأ لكل واحد منهم بأنه سيصير في نفس الدور الذي لعبه في اللعبة “وكان اثناسيوس يلعب دور أسقف” تعلم أثناسيوس في مدرسة الإسكندرية الفلسفة واللاهوت والأدب اليوناني وقبل ان يبلغ العشرين من عمره كان قد أنجز كتابيه الشهيرين “تجسد الكلمة” و”الرسالة إلى الوثنيين” كما ذهب إلى البرية الشرقية وتتلمذ علي يد القديس العظيم الأنبا أنطونيوس أبو الرهبان لمدة 3 سنوات.
ظهور اريوس:
أريوس قسيس ليبي درس في مدرسة إنطاكية اللاهوتية علي يد أستاذه ويدعي “لوكيانوس” تأثر أريوس بنظرية أفلاطون بوجود كائن وسيط بين الآلهة والبشر فاعتبر أن السيد المسيح هو الكائن الوسيط بين الآلهة والبشر وبالتالي فهو ليس الله الكامل في لاهوته وبدأ ينشر تعاليمه في الكنائس كما قام بتأليف ترانيم روحية عرفت باسم”ثاليا” يروج فيها لعقيدته وحققت انتشارًا واسعا فقام البابا بطرس خاتم الشهداء بحرمه، فحاول أريوس استمالة كل من ارشيلاوس والكسندروس إليه لكي يتوسط عند البابا بطرس عندما كان مسجونًا.
ولكنه رفض بشدة وقال لهم سوف تجلسان على كرسي مارمرقس من بعدي فحاذرا قبول أريوس. ولكن مع مجيء ارشيلاوس نجح اريوس في استمالته إليه فأعاده إلى شركة الكنيسة وعينه علي أكبر كنيسة في الإسكندرية وهي كنيسة “بوكاليا ” ولكن ارشيلاوس لم يمكث علي الكرسي المرقسي أكثر من 6 اشهر وجاء البابا الكسندروس وجدد الحرم علي اريوس ثانية وعقد مجمع مكاني عام 321 حرم فيه اريوس فتظلم اريوس لدي الإمبراطور قسطنطين فدعا إلى عقد مجمع مسكوني وكان ذلك عام 325.
مجمع نيقية المسكوني
اجتمع 318 أسقفا من جميع أنحاء العالم في مدينة نيقية بتركيا لمناقشة بدعة اريوس وسافر معه شماسه أثناسيوس , وأثناء جلسات المجمع دار حوار طويل بينه وبين وأريوس حول لاهوت السيد المسيح فتمسك أريوس بتعبير( مشابه للأب في الجوهر ) بينما أصر أثناسيوس على تعبير (مساو للأب في الجوهر ) وكان الفرق بين التعبيرين هو مجرد حرف يوتا I في اللغة اليونانية (عبارة أريوس هي Homoiousious بينما عبارة أثناسيوس هي Homoousious والمقابل الإنجليزي لها هي Consubstantial) وانتهى الحوار بانتصار أثناسيوس حتى أن الإمبراطور قسطنطين رفع يد أثناسيوس في وسط المجمع وقال له “أنت بطل كنيسة الله ” وقام المجمع يرأسه القديس هوسيوس أسقف قرطبة بالاشتراك مع البابا الكسندروس والقديس أثناسيوس بسن قانون الأيمان حتى (نعم نؤمن بالروح القدس) كما قام المجمع بسن 20 قانونا آخرين.
أهم قرارات مجمع نيقية :-
1- موضوع تحديد موعد عيد القيامة المجيد واتفق أن يكون الأحد التالي لعيد الفصح اليهودي ويتولى بابا الإسكندرية مسئولية إبلاغ كنائس العالم بذلك
2- موضوع إعادة معمودية الهراطقة اتفق المجمع في عدم إعادة معمودية من هر طق عند رجوعه بينما لابد من إعادة معمودية من عمدهم الهراطقة
3- في موضوع زواج الكهنة كاد المجمع أن يصدر قرارا بوجوب بتولية الكهنة لولا تدخل القديس بفنوتيوس أسقف طيبة “هو للعلم كان بتولًا” الذي رفض هذا الأمر وقال لا يجب أن نحمل الكهنة عبئا إضافيًا
4- ناقش المجمع أيضا موضوع تنقل الكهنة بين الايبارشيات فمنعها تماما
أما عن أريوس فلقد حكم المجمع بحرمه ونفيه إلى جزيرة ايليريا (حاليًا إحدى قرى يوغسلافيا)
ثم تنيح البابا الكسندروس وزكي الشعب الشماس أثناسيوس لكي يصير بطريركا من بعده.
اثناسيوس علي كرسي مار مر قس :-
1- كان من باكورة أعمال القديس أثناسيوس الرسولي عقب رسامته بطريركا رسامته أسقف لإثيوبيا باسم “فرومنتيوس”
2- قيامه برحلة رعوية إلى الصعيد وحاول رسامة القديس باخومويس أسقفا ولكنه هرب منه
3-مشاركته في تدشين كنيسة القيامة بالقدس
ثم أصدر الملك قسطنطين أمرا بعودة أريوس إلى شركة الكنيسة وكان هدفه من ذلك هو رغبته في نقل عاصمة المملكة إلى بيزنطة وكان يوجد بها تجمع أريوسي كبير وطلب ذلك من اثناسيوس ولكنه رفض وقال قوله المأثور (من حرمه مجمع مسكوني لا يحله ألا مجمع مسكوني أخر).
مجمع صور اللصي : – عام 335
والغرض الرئيسي من هذا المجمع هو التخلص من أثناسيوس باعتباره العقبة الكبرى في سبيل العفو عن أريوس. وكان خصومه هم أنفسهم قضاته فوجهوا له الاتهامات التالية:
–
1-اتهامه بالزنا مع امرأة ساقطة ولكن الرب أظهر براءته
2 -اتهامه بقتل الأسقف الدخيل ارسانيوس وقطع يديه وبالفعل احضروا يد مقطوعة لإثبات التهمة عليه ولكن الرب يظهر براءته
3- اتهامه بتحطيم كأس التناول في مريوط ولكن اثناسيوس يظهر الكأس ويثبت بطلان التهمة
اتهم أعضاء المجمع اثناسيوس بالسحر وحاولوا الفتك به ولكنه يفلت منهم ويهرب إلى القسطنيطنية واستوقف موكب الإمبراطور فاستدعى الإمبراطور مجمع أساقفة القسطنطينية فوجهوا له اتهامًا جديدًا هو منع وصول القمح إلى مدينة القسطنطينية.
النفي الأول :- إلى مدينة تريف بفرنسا
أصدر الإمبراطور قسطنطين أمرا بنفي اثناسيوس إلى جزيرة تريف وإعادة أريوس إلى شركة الكنيسة وتعيينه في أكبر كاتدرائية في القسطنطينية، وفي اليوم المحدد للصلاة فاجئه مغص مفاجئ فدخل إلى مرحاض عمومي وتوفي بداخله وتوفي من بعده الإمبراطور قسطنطين وانقسمت المملكة من بعده بين أولاده الثلاثة وهم :-
1- قسطنطين الصغير في الغرب
2- قسطنطنيوس في مصر والشرق الأوسط
3- قسطنطس في أفريقيا
النفي الثاني :- إلى مدينة روما :-
قام الإمبراطور قسطنطنيوس بقتل أخيه الصغير قسطنطين وانقسمت الإمبراطورية من بعده إلى قسمين كبيرين هما :-
1-قسطنطس في الغرب
2- قسطنطنيوس في الشرق
أراد الإمبراطور قسطنطيوس نفى أثناسيوس وتعيين “حورج الكبادوكي” وكان ذو ميول أريوسية فهرب أثناسيوس إلى روما وهناك تقابل مع إمبراطور الغرب قسطنطنس الذي بعث برسالة إلى أخيه يطلب منه العفو عن أثناسيوس والسماح له بالعودة لحفظ السلام في الكنيسة فاتفق الأخوان على عقد مجمع على عقد مجمع في سر ديكا عام 343 الذي أمر بعودة أثناسيوس إلى كرسيه بالإسكندرية. ولقد قيل انه هذا النفي إلى روما كتب القديس اثناسيوس كتابه الشهير “حياة أنطونيوس” .
النفي الثالث :- إلى الصحراء المصرية :-
وبعد فترة اغتيل الإمبراطور الأرثوذكسي قسطنطس على يد أحد قواده ويدعي “ماجنتيوس” وأصبح قسطنطنيوس هو الإمبراطور الأوحد للمملكتين فادعى الأريوسيون كذبًا وافتراء على البابا أثناسيوس انه كان شريكًا في اغتيال الإمبراطور السابق فقام جيش الإمبراطور بالهجوم على الكنيسة التي يصلي فيها البطريرك وكان الشعب يصلي الهوس الثاني من التسبحة “لأن إلى الأبد رحمته” وتجمع الشعب لدفاع عن باباه وقالوا لجنود (لن تصلوا إلى البابا إلا على جثثنا جميعا) وتمكن أثناسيوس من الهرب إلى الصحراء بين أديرة الصعيد وظل مختبئًا هناك حتى وفاة الإمبراطور. وتولى بعده الإمبراطور يوليانوس الذي أمر بالإفراج عن جميع الأساقفة المنفيين وشمل القرار بالطبع اثناسيوس .
النفي الرابع:- إلى أديرة الصعيد بين الرهبان:-
اغتاظ يوليانوس جدا لنشاط اثناسيوس إذ رآه يعقد الاجتماعات ويعمد النساء الوثنيات بعد تحولهن إلى المسيحية فبعث إلى والي الإسكندرية يخبره أن قرار العفو عن أثناسيوس المقصود به العودة إلى الإسكندرية فقط دون ممارسة نشاطه وطالبه بمغادرة مدينة الإسكندرية فورًا أثر أثناسيوس السلامة وهرب إلى أديرة الصعيد مرة أخرى، وهناك قصة طريفة تروي هنا أن مراكب الجنود حاولت اللحاق به وعندما اقتربت من المركب سألوا اثناسيوس ولم يعلموا انه اثناسيوس “ألم تري اثناسيوس” فأجاب وقال لهم “هو ليس بعيد عن هنا” وبهذه الطريقة نجا أثناسيوس من الهلاك واستمر مختبئًا في أديرة الصعيد حتى مصرع يوليانوس الجاحد، وتولى الحكم بعده الإمبراطور جوفيان وكان أرثوذكسيًا وأصدر أمرًا بعودة أثناسيوس ولكن للأسف لم يمكث على العرش أكثر من أسابيع قليلة ويأتي بعده الإمبراطور فالنس.
النفي الخامس والأخير: إلى مقبرة أبيه
تولي الإمبراطور “فالنس” الحكم بعد ذلك، وكان ذو ميول أريوسية، وأراد بسط نفوذه على مدينة الإسكندرية وكان يعتقد أن أثناسيوس هو العقبة الرئيسية في سبيل تحقيق هذا النفوذ وللمرة الثانية يقتحم الجنود الكنيسة ولكن أحد الشمامسة يبلغه بالهجوم قبل وقوعه فيتمكن من الهرب ويظل مختبئًا في مقبرة أبيه لمدة 4 شهور ونتيجة ثورة الشعب وبسبب الخوف من الفتنة أصدر الإمبراطور فالنس أمرا بعودة أثناسيوس إلى كرسيه.
الأعمال الأخيرة للقديس أثناسيوس قبل وفاته:-
1- ظهور ابوليناريوس وكان أسقفًا للاذقية وهو الذي أنكر وجود النفس البشرية في السيد المسيح إذ أدعى انه كان بلا هوته فقط فكتب القديس أثناسيوس ثلاثة كتب ضده
2- ظهور بدعة “بيلاجيوس” الراهب البريطاني الذي أنكر عمل النعمة الإلهية في الإنسان وقال إن الإنسان يخلص بالإرادة الحرة فقط
3- سجل له التاريخ مراسلات هامة مع القديس باسيليوس الكبير
وفاة أثناسيوس :-
وأخيرًا وبعد جهاد طويل تنيح القديس أثناسيوس الرسولي في شهر مايو عام 373 م عن عمر يناهز 77 عاما قضي منها 45 سنة بطريركا على الإسكندرية ” 328 – 373 “ونفي خلالها 5 مرات.
وتعيد الكنيسة بتذكار نياحته في 7 بشنس حسب التقويم القبطي الموافق 15 مايو حسب التقويم الميلادي بركة صلواته فلتكن معنا إلى الابد أمين.