نظم مركز “بي لمباس” للدراسات القبطية بكنيسة السيدة العذراء مريم بمهمشة، برئاسة وحضور نيافة الحبر الجليل الأنبا مارتيروس أسقف عام منطقة شرق السكة الحديد، والعديد من الباحثين والدكاترة والخدام والمهتمين بالتراث والفنون القبطية اللقاء الشهري المعتاد، حيث استضاف المركز المهندس عاطف عوض عضو هيئة التدريس بمعهد الدرسات القبطية والباحث المدقق في التراث القبطي والذي ألقى محاضرة هامة تحت عنوان” محطات هامة في تاريخ العمارة القبطية”، وذلك بمقر نيافة الأنبا مارتيروس بكنيسة السيدة العذراء بمهمشة.

بدأ اللقاء بصلاة افتتاحية قادها نيافة الأنبا مارتيروس، ثم رحب نيافته, بالمهندس عاطف عوض وبالحضور الكريم، متمنيًا لهم الاستمتاع بالمحاضرة الهامة والتي يلقي فيها الضوء على محطات هامة في تاريخ العمارة القبطية، ثم قام الأستاذ أشرف موريس منسق اللقاءات بتقديم المهندس عاطف عوض في نبذة مختصرة.

في البداية، قدم المهندس عاطف عوض تمهيد مختصر عن السوق المصري في أعقاب الفتح العربي، قال فيه

بعد الفتح العربي لمصر وانقطاع السوق المصري عن استيراد مواد البناء من الأسواق الخارجية لأسباب سياسية واقتصادية، فقد كانت مصر تستورد من الخارج الخامات التي تستعمل في بناء الكنائس ذات التصميم البازيلكي السائد وقتها في مصر، وهي: الأعمدة من نوع الكرارة أوالبياستراتشا الأبيض لانقطاع المورد المنتج لها في بيزنطة وروميه لقيام الصراع البحري العربي الرومي لعقود، ومادة البناء الهامة الثانية هي الأخشاب لتدعيم الحوائط وتغطية الأسقف الجمالون، وهي مادة ثمينة غالية الثمن وكانت غالبًا من خشب العزيزي ذو الكثافة العالية الزيتية وكان موردها الأساسي دول شمال البحر الأبيض ذات الغابات الشجرية الكثيفة وكان يمكن أيضًا استيراد بدائلها من لبنان أو تونس لكن بتكلفة عالية لم تكن طاقة الأقباط الاقتصادية تسمح بهذه الرفاهية إلا بشكل محدود، ولذا أصبحت سوق البناء فى مصر تعتمد على تدوير مخلفات البناء و نواتج أعمال الهدم.

وبالطبع تناقص المعروض بالإضافة لاعتماد أعمال بناء المساجد التي أخذت في الزيادة بالقرن الثاني والثالث الهجري ويسهب لنا المؤرخين العرب بذكر ما كان مطلوبًا من كميات الأعمدة الرخامية لهذا الغرض وارتفعت أسعارها حتى أصبح لا يقدر على شرائها إلا ميسوري الحال.

وكان الحل هو اعتماد أسلوب جديد وخامات محلية، تتضح من قصة بناء مسجد احمد بن طولون، حيث تسجل لنا قصة بناء هذ المسجد أول ذكر لبناء المساجد بخامات غير المتعارف عليها من أعمدة رخامية وأخشاب وكان بطل هذة القصة هو المهندس القبطي سعيد ابن كاتب الفرغانى فعندما فكَّر ابن طولون في بناء جامع يكون أعظم ما بني من مساجد في مصر، لمدينة القطائع عاصمة مُلكهِ وذلك بين عاميّ 872، 873 م.

وكان تصميمه يقوم على ثلاثمائة عامود من الرخام، صعب تدبيرها إلا عبر استخدام أعمدة الكنائس والأديرة المتخربة، فتورع ابن طولون عن ذلك، ولما سمع المهندس القبطي النابغة في محبسه الخبر هذا الخبر حزن وخاف على الكنائس من الهدم؛ وكتب لابن طولون أنه قادر أن يبنيه له كما يحب بلا أعمدة إلا عمودي القبلة، ورسم له شكل الجامع على الجلد وأرسله له مع الرسالة فأعجبه واستحسنه وأمره ببناء الجامع فبناه على أحسن ما يكون. وما زال جامع ابن طولون في حي طولون بالقاهرة يشهد بعبقرية ذلك المهندس القبطي النابغة إذ ترى العقود المبنية في الجامع قبل أن يُعرف فن العقود في أوربا وبلاد العالم.

وهذه القصة توضح عجز السوق المحلية عن توفير هذا العدد المحدود من الأعمدة لمسجد يبنيه حاكم مصر وانعدام الاستيراد من الخارج رغم توفر الموارد المالية الكبيرة لابن طولون الذى نعرف مدى ثرائه من قصة حفيدته قطر الندى من ابنه خمارويه و ما أحاط حفل زفافها من مظاهر العظمة، حين زوجها أبوها من الخليفة العباسي .

وبالطبع كان لهذا المهندس الفرغانى تجارب سابقة في بناء الكنائس استعمل فيه هذا النمط من البناء.
ويؤكد المهندس عاطف عوض، أنه منذ الفتح العربي وحتى بدايات القرن التاسع عشر انقطع جلب الرخام والأخشاب لعامة المصريين إلا في حالة إقامة مسجد أو قصر يخص الخليفة أو السلطان. ففي نهاية حكم ولاة العثمانين في نهاية القرن الثامن عشر حصل إبراهيم الجوهري على مرسوم لبناء الكنيسة الكبرى بالازبكية من أميرة عثمانية ورصد لها الكثير من المال، ورغم هذا قصر أن يجلب لها أعمدة رخامية وأقيمت على أعمدة خشبية ولكن مع بدايات عصر محمد على وأولاده استطاع أثرياء القبط استجلاب أعمدة رخامية من الخارج نراها في كثير من كنائس الدلتا التي تعود لذلك الزمن مثل كنائس فيشا النصاري وحصة برما و الملاك البحري وغيرها.

وأوضح المهندس عاطف عوض، أن هناك عامل أساسي وجوهري مؤثر في العمارة بمصر بدأ بالغزو العثماني في بدايات القرن السادس عشر سنة 1517 م قاموا بجمع وتسخير العمالة الماهرة في كل المجالات وتهجيرها لأعمار أسطنبول تاركين مصر تعاني الانحطاط الفني والفكري. وانحصر من وقتها وجود إنشاءات كنسية فخمة وضخمة إلا في نطاق مصر القديمة.

وكان البناء يعاد على نفس تصميمها السابق وهو الطراز البازليكي القبطي رغم أن هذا التصميم يحتاج لرعاية خاصة لقصر عمر السقف الخشبي الجمالوني لها الذي لا يطول عن قرن من الزمان لتعرضه لمخاطر كثيرة أهمها القرضة (النمل الأبيض) وغيرها من الحشرات أو الهشاشة نتيجة جفاف محتواها المائى وأخطرها وهو الحريق كما حدث بكنيسة قصرية الريحان بمصر القديمة.

أما بقية الكنائس والأديرة بمناطق مصر المختلفة سواء بالصحارى أو الدلتا أو الصعيد فبنيت بمواد وخامات محلية من طوب لبن وطوب أحمر وقوالب الطفلة والدقشوم والحجر وأخشاب محلية و أفلاق النخيل حسب توفر أي من الخامات السابقة في بيئة البناء. حتى ماكان منها مبنى في الأصل على الطراز البازيلكي أعيد بنائها بتصاميم مختلفة تتناسب مع الخامة المستحدثة. فالكنيسة الأثرية بدير البراموس مثال جيد على تحولها من الطراز البازيليكي الذي مازال عمود أرسانيوس باقى شاهدا على تصميمها الأصلي وسقفها الذى ولابد أن يكون من الخشب مناسبا لطاقة هذا العمود النحيل على الحمل. وأصبح نمط البناء هو النمط الأيوني ذو التغطية ذات القبوات البرميلية والقباب والحوائط السميكة والركائز الضخمة القادرة على حمل هذه القبوات الحجرية التى تحمى من بداخلها من طقس الصحراء القاصى

وأشار المهندس عاطف عوض انة لمعرفة تأثير تغيير خامات البناء والبيئة والمتطلبات الوظيفية والأحوال الاجتماعية فى شكل المبنى الكنسى النهائي لابد اولا معرفة مايوفره لنا الطراز البازيليكى
* الاتساع نتيجة نحافة الاعمدة الرخامية الحاملة والبعد النسبي بين كل عامود وآخر، مما يتيح مجال كبير لرؤية الهيكل
* الارتفاع نتيجة خامة الخشب لجمالوني الاسقف الخفيف نسبيا مما لا يسبب صدى صوتى من انعكاس الصوت من السقف
* الجودة الصوتية لوجود حنية شرقية مكسوة بالرخام مما يقوى الصوت للوصول بجودة لاخر الكنيسة رغم طولها
* وحدة ومحورية البناء فالمبنى غالبا أحادى الهيكل وقد يكون ثلاثى الحنيات واحيانا توجد مذابح جانبية ثانوية
* جودة التكييف الحرارى والتهوية نتيجة السقف الخشبى كعازل حرارى جيد بالاضافة لارتفاعه وخلو الحوائط الجانبية من الشبابيك الا من بعض الفتحات الضيقة لدخول ضوء هادى وتهوية جيدة

مما سبق يتضح انه لم يتبق بمصر نماذج من العمارة الكنسية المبنية ذات التصميم البازليكى (غير منحوتة) الا ما تعود الى ماقبل دخول العرب :-
أولا بالوجه البحرى وسيناء
* كاتدرائيات مدينة مينابوليس بمريوط
( البازيليكا الكبرى – بازيليكا المدفن – الكنيسة الشمالية

* كاتدرائيات سيناء
جنوب سيناء(بازيليكا سانت كاترين – يازيليكا جبل الطاحونة فيران)
شمال سيناء( الفرما- بازيليكا تل مخزن – كنائس الفلوسيات الثلاث
* كنائس مصر القديمة
منطقة قصر الشمع (المعلقة- ابوسرجة- بربارة- دير مارجرجس)
منطقة بابليون الدرج(العذراء- الامير تادرس- أباكير ويوحنا- الملاك القبلى)
منطقة الفسطاط (كنيسة ودير أبو سيفين- الانبا شنودة- العذراء الدمشرية)

ثانيا بالوجه القبلى
* كتدرائية دير الانبا أرميا بسقارة ( أثار )

* كاتدرائيات إهناسيا ونزلة العصافرة ( أثار )
* كتدرائية كوم نمرود غرب سمالوط ( أثار )
* كتدرائية مارمينا بطحا الاعمدة سمالوط ( أثار )
* بازيليكا ابو فانا قصر هور ملوى وهى من أثار معاد بنائها جزئيا
* بازيليكا الاشمونين بملوى ( أثار )
* كنيسة الانبا أثناسيوس – دير الزاوية أسيوط ( أثار معاد بنائها جزئيا )
* باريليكات الدير الابيض والدير الاحمر بسوهاج (أثار معاد بنائها جزئيا )
* بازيليكا الانبا باخوميوس بفاو قبلى قنا ( أثار )
* البازيليكات بداخل معابد دندرة والميدامود والاقصر وهابو وإسنا ( أثار )

* بازيليكات الواحات (كمثال مارجرجس بواحة الحيزوأبو ماضى بالداخلة)وبعد هذا التاريخ الفاصل فى منتصف القرن السابع 642م خضعت الطرز الكنسية الى عوامل عدة منها كما سردها المهندس عاطف عوض

* العامل الاقتصادى ويستتبعه نوع الخامات المستخدمه وحجم المبنى منسوبا لدرجة فقر المجتمع والاعداد الباقية من الاقباط
* العامل البيئى وتاثيره فى التهوية والصوت والضوء هو نتيجة مباشرة لنوع الخامة المستخدمة التى تجبر مستخدمها لضعفها على تبنى أرتفاعات قليلة فى القباب أو القبوات لانه كلما زاد الارتفاع يلزم زيادة الركائز وسمك الحوائط وخامة الطين أو الحجر بطبيعتها ماصة ومشتتة للصوت مما يجعله محدود الانتقال داخليا يضاف الى ذلك أختفاء شبه كامل للفتحات والشبابيك من الحوائط وظهور انماط مختلفة من الفتحات بالقباب و القبوات
* العامل الاجتماعى والسياسى نتيجة ورود عادات وتقاليد غربية تمنع الاختلاط بين الجنسين بالاضافة لعدم توافر الامن العام لاستقرار المجتمع مما أثر فى شكل المداخل المنكسرة وفصل دخول الرجال عن النساء وتخانة الحوائط ووجود خبيئة وعنصر الضفير لزيادة الاحساس بالامن.

* العامل الطقسى والخدمى والوظيفى , فخدمة القداس تستلزم مشاركة المصلين فيما يدور بالهيكل بصريا وصوتيا وهذا يبقى محدودا نتيجة ما سبق من عوامل, فضخامة الركائز والحوائط تحد من الرؤية المباشرة وتحد من إنتقال الصوت مع كون الحوائط ماصة ومشتتة للصوت. فكان ظهور عنصر الخوارس والكنيسة المستعرضة وتعدد الهياكل هو الحل المعمارى لهذه المشاكل و أعطى مرونة تصميمية بزيادة هيكل جانبى كلما دعت الحاجة الى ذلك لوجود أنشطة أقتصادية غير الزراعة للريفيين وهذا استتبعه إختلاف أجازاتهم مع محدودية عدد الكنائس لوجود قيود الخط الهمايونى على البناء مما أستلزم إقامة عدة قداديس يوميا على مدار الاسبوع لاعداد محدودة كل مرة

أما من ناحية خامة البناء :فالدلتا والصعيد بنيت غالبيتها من الطين اللبن إلا ماكان منها فى الحضر فبنى من الطوب الاحمر.أما الاسقف فكانت تتنوع بين القبوات والقباب من نفس خامة بناء الحوائط والقليل منها من الخشب المحلى أما الكنائس بالقرى على أطراف الصحراء أومبانى الاديرة الصحراوية فكانت خامة البناء هى الطفلة الصحراوية والدقشوم والحجر وهى بالطبع الخامات المتوفرة بهذه البيئة وبالطبع التغطية قباب وقبوات من نفس خامة الحوائط

وأشتركت كل أنحاء مصر فى كل المؤثرات السابقة لكن إختلفت جغرافيا. فكلما إقتربت جنوبا قلت معدلات هطول الامطار وزادت درجات الحرارة فنجد إن استخدام النمط النوبى فى بناء القبة والقبو النوبى ( البناء بطريقة ظهر السلحفاء بدون فارمة أو عبوة على اى فارغ منتظم أو غير منتظم ) هو المسيطر فى البناء لسهولته ووجود من يبرع فى إستخدامه.
هذا التنوع خلق لنا طرز وانماط تختلف من مكان لاخر فعلى سبيل المثال :-
الفيوم ظهر بها نمط كنسى خاص بها نادرا مانراه فى غيرها وهو الكنيسة ذات القبتين
أخميم بسوهاج ظهر بها نمط أخر من بناء للقباب بالطوب الملون ونلحظ بتميزها لوجود عنصر معمارى أمنى وهو الضفير
من جنوب سوهاج وحتى أدفو نلحظ إنتشار نمط الكنيسة العرضية متعددة الهياكل
من إدفو وحتى الحدود الجنوبية مرورا بأسوان وكنيسة عبد القادر وعبدالله نرقى وقصر الوز وفرس ينتشر نمط التغطية بالقبوات البرميلية النوبية

وضرب المهندس عاطف عوض بعض الامثلة من الاديرة التى تحمل اثار هامة

أثار ديرٌ أبا نفر السائح ، بمنطقة منقباد

ودير المشرقى بالصوامعة شرق بأخميم

ودير الانبا توماس شمال اخميم

ودير الشهداء شرق اخميم

ودير العذراء بالحواويش بأخميم

وكنيسة ابى سيفين بأخميم

وكنيسة الست دميانة باخميم

ودير مارجرجس الحديدى بالعيساوية بأخميم

ودير الانبا بسادة شرق المنشأة باخميم

ودير الملاك شرق جرجا

واختتم اللقاء ببعض المداخلات الهامة من الباحثين والسادة الحضور، كما أجاب المهندس عاطف عوض على العديد من الأسئلة والتعليقات والاستفسارات والمداخلات من الحضور، في جو من الحب والود ثم قدم نيافة الأنبا مارتيروس الشكر للحضور الكريم وللمهندس عاطف عوض

كما تم بث المحاضرة أون لاين على موقع فيسبوك عبر حساب نيافة الأنبا مارتيروس

وبعد انتهاء المحاضرة استمع الحضور لكورال ثيؤطوكوس بقيادة الشاعر كمال سمير التابع لكنيسة العذراء مريم بمنطقة مهمشة، والذي يلقي تشجيع كبير من نيافة الانبا مارتيروس، حيث قدم ترنيمة للسيدة العذراء بعنوان ” الناس لما شافوكى “من التراث القبطي

ولا يسجل لنا التاريخ القبطي في العصور الوسطى إلا بناء أو إعادة بناء ما تهدم من الكنائس الشهيرة في القاهرة أو الفسطاط أو المدن الكبرى بمصر وكيف كان يتم تدبير ما يلزمها من الأعمدة من بقاياها السابقة أو ماتخرب من غيرها من الكنائس وهو ما يفسر لنا تعدد أنوع وألوان وأطوال الأعمدة الرخامية واختلاف أشكال التيجان بالكنيسة الواحدة بكنائس قصر الشمع والفسطاط وبابليون الدرج.