بقلم شريف الشوباشي
الإنسان الذى حَبَاه الله بالعقل الراجح والنضج يكون قادرا على الخروج من نفسه والتجرد من ذاته من أجل الغوص فى نفس غيره ليفهم ما يدور برأس الآخر من آراء وأفكار وما يجيش بصدره من مشاعر وأحاسيس. ومَنْ كان عاجزا عن ذلك يكون عادة إنسانا متصلب الرأى يميل إلى التعصب لأنه لا يَعْتدّ إلا برأيه ويتصور أنه يمتلك الحقيقة وحده وأن غيره غارق فى الباطل والضلالة.
ومن هذا المنطلق قررتُ أن أضع نفسى مكان مواطن قبطى هزته فاجعة نجع حمادى التى راح ضحيتها ستة من الأقباط فى ليلة عيد الميلاد أُطلق عليهم الرصاص لمجرد أنهم ينتمون إلى ديانة السيد المسيح وليس لأى سبب آخر.
وسألتُ نفسى : لو كنت قبطيا فماذا يكون شعورى إزاء هذا الاعتداء وحيال المناخ النفسى الذى دَفعَ مرتكبيه إلى الإمساك بالأسلحة النارية لتنفيذ جريمتهم الحمقاء وهى من نوع الجرائم التى يُطلقون عليها اسم "جرائم الكراهية".. ماذا سيدور بخاطرى بعد رد فعل الغضب التلقائى الأول؟
ووجدتنى أجيب: لو كنت قبطيا لقلت لنفسى: الموقف الرسمى للدولة الذى تعكسه تصريحات المسئولين الرسميين يقوم حسبما أعلم على عدم التفرقة بين المسلم والمسيحى. والدستور والقوانين بصفة عامة يُسَووّن من الناحية النظرية بين كافة أبناء المجتمع. صحيح أنه لازالت هناك قوانين مُجْحفة بالنسبة للأقباط وعلى رأسها القوانين الخاصة ببناء وترميم الكنائس ولا زلنا ننتظر بفارغ الصبر صدور قانون موحد لبناء دور العبادة فى مصر وإلقاء الخط الهميونى فى قمامة التاريخ وهو المرسوم العثمانى الذى يضع قيودا صارمة على بناء وإصلاح الكنائس. كذلك سوف أطالب بإلغاء الخانة الخاصة بالديانة فى كافة الوثائق الرسمية وبالذات الرقم القومى وجواز السفر وهى وسيلة غير مبرّرة لتكريس التفرقة بين المواطنين.
ولو كنت قبطيا لاستطردتُ قائلا لنفسى: الحديث الرسمى إذا يريحنى.. لكن الواقع يختلف اختلافا كبيرا. فالممارسات اليومية تدل على أن هناك نظرة مختلفة للأقباط لدى الكثيرين، نظرة تقوم على التفرقة والشك والريبة. والسبب الرئيسى فى رأيى هو التعبئة الإعلامية المستمرة التى لم تتوقف منذ أكثر من ثلاثين عاما والتى قامت حول محور أساسى وهو أن الهوية الأولى للمواطن لم تعد الهوية الوطنية المصرية بل صارت الهوية الدينية الإسلامية. وقد تسبب ذلك فى خلط رهيب بين الدين والسياسة جعل المواطن العادى يعتبر أن كل من هو غير مسلم ليس جديرا بالتمتع بحقوق المواطن الذى يَدين بالإسلام.
وكما قلت فى كتاب "ثورة المرأة" إن المشكلة الأساسية للمرأة المصرية والعربية ليست القوانين بالدرجة الأولى.. بل هى نظرة المجتمع والمناخ العام الذى يُروّج لأفكار ومعتقدات تجعلها مواطنا فاقد الأهلية.. فإن ذلك الرأى ينطبق تماما على الأقباط.
ولو كنت قبطيا لقلتُ لنفسى إن مشكلتى الرئيسية تكمن فى المناخ العَفِن الذى تصاعد فى الثلاثين عاما الماضية والذى أدى إلى ظهور تيارات متطرّفة تُحدّد المواطنة على أساس الدين مما يستثنى الأقباط من تلك المواطنة المزعومة وينزع عن المسيحيين زورا وعدوانا صفة المصرية التى يتمسكون بها أكثر من أى شىء آخر.
لو كنت قبطيا لأفزعتنى التصريحات المنسوبة إلى مدرب الفريق القومى لكرة القدم حسن شحاتة ومؤداها أن التمسك بالدين الإسلامى هو معيار أساسى للعب فى منتخب مصر. صحيح أنه تراجَعَ عن هذا التصريح وأكد إنه أسىء فهم كلامه.. لكن بعد وقوع الضرر والبلاء. وسواء صح أو لم يصح فإن نشر مثل هذا التصريح لم يكن وليد الصدفة أو زلة اللسان بل كان انعكاسا لمناخ عام يهيمن عليه الدروشة والمزايدة فى الدين والتمسك بمظاهر الإسلام على حساب جوهره العظيم. وهذا المناخ يخلق تلقائيا مشاعر معادية للأقباط ويضعهم فى مرتبة ثانية بالنسبة للأغلبية المسلمة.
ولو كنت قبطيا لراعنى الحديث المستمر عن التصنيف والفرز الطائفى الذى يهيمن على وسائل الإعلام ويبث سموما أدت إلى تلويث العقول على مدار سنوات طويلة احتكر خلالها الساحة بعض دعاة البغضاء والفتنة والتعصب. وهؤلاء لا يكتفون بترديد الخرافات والخزعبلات وتغييب العقل والضمير، لكنهم يُحرّضون الناس على عدم التعامل مع من يضعونهم فى تصنيف الكافر أو غير المؤمن.
ولو كنت قبطيا لقلت لنفسى إنه لا شك عندى أن مرتكبى الجريمة البشعة التى راح ضحيتها الأبرياء فى نجع حمادى لا يمثلون الشعب المصرى بحال من الأحوال بل هم قلة شاذة. لكن المأساة هى أنهم ضحايا ذلك المناخ الكريه الذى تحدثتُ عنه والذى أدى إلى تقسيم مصر إلى قسمين بعد أن عاشت نحو قرن من الزمان تحت مظلة شعار "وحدة الهلال والصليب".
لذلك فإن جريمة نجع حمادى قابلة للتكرار فى أية لحظة لأن النفوس معبأة بروح بعيدة كل البعد عن طبيعة الشعب المصرى الفطرية لكنها وليدة ظروف محلية وإقليمية ودولية يحتاج شرحها إلى كتب ودراسات مستفيضة.
لو كنت قبطيا لقلت لنفسى إن بعض المسيحيين المقيمين بالخارج وهم بعيدون عن قضايا الوطن يزايدون على قضيتى. وإذا افترضنا أن نواياهم طيبة فإن نتيجة مزايداتهم لا بد أن تنعكس سلبا على الأقباط الذين اختاروا العيش فى مصر وهم الغالبية وهم الذين يعانون من النظرة السلبية التى تروّج لها أدوات الدعاية المتطرفة فى بلادى.
لو كنت قبطيا لقلت لنفسى إننى سمعتُ بأذنى من يصيح فى وضح النهار بأن الأقباط كَفَرَة وأن مأواهم جهنم وبئس المصير.. لكنى سأرفع صوتى لأردد بكل قوة أن مصر وطنى الغالى الذى لا أقبل بغيره وطنا ولن يُرهبنى أولائك الأفّاقون الذين ألغوا عقولهم وعمدوا إلى نشر حديث الحقد والتفرقة.
لو كنت قبطيا لكنت أشعر اليوم بالغضب والقلق.. فمن يطمئننى؟ ليس بالكلمات.. وإنما بالأفعال.
cherifchoubachy@yahoo.fr
كم مقال مثل هذا كتب فى الاهرام؟؟؟؟ نفسى اعرف.. وقد خصص له ابراهيم سعدة عموده بالكامل فى اخبار اليوم قائلا كنت اتمنى ان اكون انا كاتب هذا المقال