مصر وإسرائيل ومخطط التهجير
04.12.2025 07:50
اهم اخبار العالم World News
الدستور
مصر وإسرائيل ومخطط التهجير
حجم الخط
الدستور

لا شيء قادرًا على منع انزلاق المنطقة إلى مستقبلها المحتوم بسبب الغطرسة الإسرائيلية، وعودة الرؤى الأمريكية للشرق الأوسط الجديد إلى صدارة المشهد، رغم كل المحاولات العربية من منع حدوث السيناريو الأخطر دبلوماسيا.

المسألة أكبر من طوفان الأقصى، أو مقاومة الفلسطينيين أو انقسامهم. المنطقة كلها تتحرك بشكل يتجاوز الحرب الدائرة في غزة إلى ما هو أعمق وأبعد. 

من كل ما حدث ويحدث على مدار عامين، فإن العامل الحاسم في مسار الصراع الحالي، أظهرته رغبة الأمريكان في إعادة صياغة معادلة موازين القوى بالشرق الأوسط، وهذه عملية خطيرة لا يمكن أن تتم إلا بفك وإعادة تركيب دول المنطقة، بغرض إضعافها أولا، ووأد قدرتها على الممانعة أو المقاومة، ولتنصيب الكيان الصهيوني قائدا وحيدا قويا للإقليم ثانيا.

التصريحات الأخيرة للقادة العسكريين الصهاينة حول تحميل مصر مسئولية رفض عبور سكان قطاع غزة إلى سيناء التي قابلتها القاهرة برد رسمي فوري صادر عن هيئة الاستعلامات، يؤكد أن معبر رفح لن يفتح من اتجاه واحد يسمح بخروج الفلسطينيين دون عودتهم متى شاءوا. هذه التصريحات تعيد للواجهة التوتر المكتوم بين القاهرة وتل أبيب.

التحرشات الإسرائيلية المتكررة بمصر ومواقفها، تؤكد أن العقبة الكئود الوحيدة أمام الصهاينة هي الدولة الأكبر والجيش الأقوى بالمنطقة. كل محتلي تل أبيب يدركون جيدا أن مصر فقط هي القادرة على إفشال تلك المخططات وإفسادها بعد أن تمكنت تل أبيب من إضعاف كل جبهات المقاومة بشكل ملحوظ.

المسألة ليست خلافا عابرا أو مناورات تفاوضية طارئة، بل العودة للمخططات الأصلية التي ظلت حبيسة الأدراج انتظارا للفرصة المناسبة.

من هذه الزاوية تحديدا، يمكن فهم المبادرة التي طرحتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والقائمة على وضع قطاع غزة تحت إدارة أمريكية ودفع مصر إلى استقبال جزء من سكانه، على أنها ليست فكرة فجائية جاءت من الفراغ، ولا تعبيرا عن نزق سياسي، بل امتداد لرؤية قديمة تتقاطع مع جوهر المشروع الصهيوني منذ لحظاته الأولى.

الربط بين الماضي والحاضر يقدم أساسا تفسيريا لطبيعة تلك المخططات. فالإدارة الأمريكية، منذ اندلاع 7 أكتوبر، تتحرك وفق خط استراتيجي واضح لمحاولة استثمار الصدمة التي ضربت المنطقة لإنتاج واقع جديد. واقع لا يستند فقط إلى نتائج الميدان، بل إلى إعادة ترتيب المسرح السياسي والديموغرافي بما يتسق مع المصالح الإسرائيلية طويلة المدى. 

الطرح الأمريكي جاء متزامنا مع قراءة إسرائيلية ترى أن اللحظة الدولية والإقليمية مواتية لطرح فكرة التهجير مرة أخرى، في سبيل تحقيق هدفها الرئيس بإعادة تعريف الوجود الفلسطيني في غزة ومعه جوهر القضية برمتها.

في قلب هذا المشهد المضطرب تقف مصر بصلابة في وجه تلك المخططات التي تصطدم بثوابت الدولة المصرية. وثوابت مصر تتمثل ابتداءً في الحفاظ على السيادة الوطنية ووحدة التراب الوطني، ثم استقرار الحدود الحيوية، وأخيرا التصدي لأي محاولات تغيير ديموغرافي من شأنها تهديدد أمننا القومي

القيادة في مصر تدرك جيدا أن أساس الشرعية يستمد من القدرة على حماية الحدود أولا، وصيانة الأمن القومي والحفاظ على التراب الوطني ثانيا، ودرء أي مهددات للأمن القومي حتى ولو على المدى البعيد.

أي مساس بتلك الثوابت المقدسة يقوض مفهوم الدولة قبل أن يكون مسألة تقدير سياسي.

العقيدة العسكرية المصرية بدورها تلعب الدور الأكبر في صيانة تلك الثوابت. لا يمكن للجيش المصري تحت أي ضغوط أن يسمح بسيناريو يعيد رسم خرائط المنطقة أو يغير حدود الدولة القائمة.

في الناحية الأخرى تدرك واشنطن وتل أبيب أن المشروع لن يكتمل دون جر القاهرة إلى مساومات لإجبارها على القبول أو على الأقل غض الطرف والسكوت عن المخطط. حاولت الولايات المتحدة وخلفها إسرائيل الضغط على مصر بأوراق عدة، في البداية، حاولوا إغراء القائمين على القرار في مصر بشطب الجزء الأكبر من الدين الخارجي، ثم ضخ استثمارات كبيرة من شأنها حل الأزمة الاقتصادية وتخفيف تبعاتها. لم تفلح سياسة الترغيب فلجأوا إلى سياسة الترهيب وأهمها ملف الديون، ثم ملف المياه، ثم ملف الغاز، وأخيرا ملف التسليح وقطع الغيار، مع توزيع الاتهامات هنا وهناك بأن مصر خالفت معاهدة كامب ديفيد، غير أن كل تلك الحيل الخبيثة لم تفلح مع القاهرة.

صمود الموقف المصري أمام كل تلك الضغوط يشير لعلم صناع القرار بحقيقة ما يجري تحضيره في الكواليس.

لم تكتفِ مصر بالرفض، بل عملت على بناء موقف عربي أوسع يضع السقف السياسي لمنع تمرير الفكرة. فالقضية لا تخص مصر وحدها، بل تمس جوهر الصراع ذاته. وأي قبول عربي بتهجير سكان غزة يعيد المنطقة إلى زمنٍ كانت تدار فيه الخرائط بمعزل عن إرادة الشعوب، ويعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية القديمة عن "أرض بلا شعب".

مع كل الأسى والأسف، لم يسعف الموقف العربي التطلعات المصرية لبلورة موقف مشترك. تلك المحاولات التي بدأت قبل 10 أعوام حينما دعا السيسي إلى إنشاء قوة عربية مشتركة

هنا تتبدى أهمية تحويل الموقف العربي إلى موقف إسلامي، ليس من باب توسيع التحالفات، بل من باب إعادة وضع القضية في إطارها الطبيعي: قضية تمس الوجدان الديني لحوالي ملياري مسلم، وجزء من سردية العدالة التي لا يجوز التفريط فيها.

ومع أن الموقف الدولي قادر على فرملة المخطط، فإن إسرائيل لن تتراجع بسهولة. فالمسألة، بالنسبة إليها، ليست مجرد "تفصيلة" في سياق الحرب، بل جزء من تصور استراتيجي أعمق يرى أن السيطرة المستدامة على غزة لا يمكن أن تتحقق دون تغيير في بنيتها السكانية، أو على الأقل، دفع كتلة من سكانها إلى خارجها. 

استمرار إسرائيل في غيها وأوهامها يتعلق بتصورهم أن الضغط على مصر يمكن أن يؤدي إلى رضوخ القاهرة للفكرة.

استخدام مصر ورقة معاهدة السلام كأداة ضغط محسوبة لم يعد محل نقاش. ليس المقصود التلويح بالحرب، بل وضع الاتفاق على المحك وإنذار إسرائيل بأن الاتفاق الذي حقق لها الاستقرار على مدار 45 عاما أصبح محل مراجعة بما يفتح المجال أمام توازن جديد في الحسابات الإسرائيلية. 

تل أبيب تدرك أن أي خلل كبير في العلاقات مع القاهرة يعني اضطرابا شاملا في البيئة الأمنية للمنطقة.

ختاما تبدو المبادرة الأمريكية أكثر من مجرد طرح لإدارة غزة. هي حلقة في مشروع أوسع لإعادة ترتيب الشرق الأوسط عبر تصفية القضية الفلسطينية بدلا من تسويتها، غير أن قدرة هذا المشروع على الاستمرار تصطدم بالموقف المصري، والموقف المصري فقط بعد إرادة الفلسطينيين.

اترك تعليقا
تعليقات
Comments not found for this news.