سيد حجاب الذي رحل حالمًا بـ"دنيا تانية ومصر جنة"
خطا الشاعر الراحل سيد حجاب، الذي رحل عن عالمنا أمس الأربعاء عن عمر يناهز 76 عامًا، أولى خطواته في القاهرة وكان جيل يسلم الراية إلى جيل جديد، جيل الكبار يفسح الطريق، بإرادته أو مرغمًا، لجيل صاعد تسلح بكافة الأسلحة وقرر فرض نفسه، جيل قرر أن يجرب، أن يتمرد على السائد، فكانت تجارب أمل دنقل في القصيدة الفصحى، وتجارب يحيى الطاهر عبد الله في القصة القصيرة، وتجارب الأبنودي في القصيدة العامية التي تمزج بين صعيديته والقاهرة التي اطلع عليها مؤخرًا.
ولم يكن من السهل على ابن الدقهلية أن يقدم نفسه كشاعر عامية في وسط ثقافي لا يقب أصلًا القصيدة الفصحى غير العمودية، ويرى التفعيلة انحرافًا عن الشعر، وكانت آنذاك ما زالت أصداء المعركة بين القعد والجيل الجديد حول القصيدة الجديدة تتردد، لذلك، كما قال حجاب في أحد حواراته، لم تكن القصيدة العامية مقبولة رسميًا.
خرج إذن حجاب في البداية كشاعر فصحى بعد أن نشر له الكاتب الراحل عبد القادر بعض القصائد في "مجلة الشهر"، ولكن "شاعر الفقراء" كما سيعرف بعد ذلك لم يكن ليرضى بالقصيدة الفصحى طويلًا لعلمه أنها لن تصل إلى جمهوره المنشود، ولعله مر بالحالة نفسها التي مر بها الأبنودي، الذي بدأ كاتبًا للقصيدة الفصحى ثم عدل عنها ليكتب العامية.
وحتى عندما نجح ديوانه الأول "صياد وجنية" لم يكن حجاب، الذي وصف بالشاعر الراقي الملتزم، لم يكن راضيًا، وظل هدفه أبعد من ذلك، كان هدفه تحت أقدام الصيادين الذين نصحه أحد أساتذته في المدرسة بأن يبحث عن القصائد في قلوبهم.
شاعر الفقراء كان لابد أن يكون يساريًا، واليسار – وهو ما أدهش العالم- كان لابد أن يصطدم بنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي تحولت الشيوعية في عهده إلى تهمة، الشيوعيون يرونه يؤسس لرأسمالية الدولية، التي لم تكن حتى – حسب أطروحاتهم- مرحلة انتقالية في اتجاه الملكية العامة، فكان حجاب على اليسار، وكان اليسار في السجون.
وفي السجن يبدو اختلاف حجاب عن رفاقه، كان مع الناس ولكنه لم يلتصق بأجساد رفاقه من الزنزانة، فكان الراحل أحمد فؤاد نجم يكتب عن المساجين والزنزانة والجلادين، وكان حجاب يحلم بما وراء القضبان بـ"دنيا تانية ومصر جنة".
وبينما كان الشيوعيون في السجون، وكان النظام يعلن أن كل الأمور تحت السيطرة هبطت صاعقة هزيمة يونيو فتبدل كل شيء، وتبدل حجاب معها، الذي قال "لم أكتب بشكل مباشر سوى بعد النكسة".
لم يكن حجاب يصف الواقع، إنما كان متمردًا عليه، يصف ما وراء الواقع الضيق، يصف واقعًا جديدًا يحلم به، ويأمل، ويقاتل، لتنفيذه.
المراحل التي مر بها حجاب في حياته هي التي شكلت مرحلة لعلها الأبرز، على الأقل لدى رجل الشارع العادي، في مسيرة "شاعر الفقراء"، وهي الشعر الغنائي، الذي استطاع أن يحقق فيه معادلة صعبة.
الفقراء دائمًا حاضرون في شعر حجاب ولكن بطريق مختلفة، كثيرون كتبوا عن العمال وبؤسهم، والفلاحين ومعاناتهم، يصفون القهر والظلم والاستغلال، ولكن حجاب رآهم برؤية حالمة، ربما يراها البعض طوباية، ولكنه –رغم هذه المباشرة التي قال عنها- لم يكن مباشرًا تمامًا، يرى الفقراء بعين شاعر لا بعين مناضل أو حقوقي.
في "الكيت كات" للراحلين داوود عبد السيد ومحمود عبد العزيز، يجلس الشيخ حسني في نهاية الفيلم على شاطئ النيل، ليتغنى بإحدى أشهر أغنيات حجاب، التي ربما تتوارى خلف بريق تترات المسلسلات، ليغني "يلا بينا تعالوا"، التي تتغنى بنضال الفقراء، الفلاحين والشغيلة، الذين يبذلون دماءهم خلف الكواليس، يلحظى بالضوء الواقفون فوق خشبة المسرح:
بص بص شوف
شوف الناس والظروف
يمكن تلقى الديابة
لابسة فروة خروف
يمكن تلقى الغلابة
في أول الصفوف
إما أن تكتب شعرًا يسكن الدواوين وإما أن تكتب أغنية تسكن الآذان، كان هذا هو السائد، والتوفيق بين الموقفين صعب، من الصعب أن تهبط بالشعر إلى الأغنية، ومن الصعب أن تصعد بالأغنية إلى الشعر، ولكن حجاب قدم قصيدة غنائية يصعب على القارئ والمستمع وضعها في أي من الإطارين السابقين، وقدم عددًا ضخمًا من تترات المسلسلات لعل أشهرها "ليالي الحلمية – المال والبنون – أرابيسك – بوابة الحلواني" وغيرها، التي جعلت البسطاء، وربما الأميين، يتغنون بقصائد على درجة عالية من الرقي، يحفظون شعرصا ربما لا يستمكنون من قراءته.
موسيقى متدفقة يشحن بها حجاب أغنياته، تتدفق النغمات خلال بيت واحد بقوافي متعددة، وتحوير للألفظ ولعب على تضادها وترادفها، واستخدام للصور كأنها أهدت لقصيدة فصحى، حتى لتشعر أنه كتبها قصيدة أولًا ثم قرروا تحويلها لأغنية، ولكن دون أن تفقد بساطة وسهولة الأغنية، التي يجب أن تكون قريبة من رجل الشارع.
بين التشاؤم – كما عند نجيب سرور- والادعاء كذبًا أن كل الأمور على ما يرام – كما عند كثيرين- وقف حجاب، وقف موقف الحالم، الرافض للواقع، والرافض أيضًا للاستسلام، والمؤمن بإمكانية التغيير، ولا عجب أن يصفه جمهوره بأنه شاعر الثورة، رغم رفضه لأن يدعي أحد أنه شاعرها.
وبعد 6 أعوام من الثورة التي يراهن البعض على ضياعها، أو على الأقل انحرافها عن مسارها، يقرر حجاب الرحيل في ذكرى اندلاع الحدث الذي أذهل العالم، والذي يقف صانعوه الآن حائرين، مرددين:
بحلم يا صاحبي
وأنا لسه بحبي
بدنيا تانية ومصر جنة
وآجي أحقق الحلم
ألقى موج عالي
طاح بي
ونعود سوا نطوي الأنين بالحنين!
خرج إذن حجاب في البداية كشاعر فصحى بعد أن نشر له الكاتب الراحل عبد القادر بعض القصائد في "مجلة الشهر"، ولكن "شاعر الفقراء" كما سيعرف بعد ذلك لم يكن ليرضى بالقصيدة الفصحى طويلًا لعلمه أنها لن تصل إلى جمهوره المنشود، ولعله مر بالحالة نفسها التي مر بها الأبنودي، الذي بدأ كاتبًا للقصيدة الفصحى ثم عدل عنها ليكتب العامية.
وحتى عندما نجح ديوانه الأول "صياد وجنية" لم يكن حجاب، الذي وصف بالشاعر الراقي الملتزم، لم يكن راضيًا، وظل هدفه أبعد من ذلك، كان هدفه تحت أقدام الصيادين الذين نصحه أحد أساتذته في المدرسة بأن يبحث عن القصائد في قلوبهم.
شاعر الفقراء كان لابد أن يكون يساريًا، واليسار – وهو ما أدهش العالم- كان لابد أن يصطدم بنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي تحولت الشيوعية في عهده إلى تهمة، الشيوعيون يرونه يؤسس لرأسمالية الدولية، التي لم تكن حتى – حسب أطروحاتهم- مرحلة انتقالية في اتجاه الملكية العامة، فكان حجاب على اليسار، وكان اليسار في السجون.
وفي السجن يبدو اختلاف حجاب عن رفاقه، كان مع الناس ولكنه لم يلتصق بأجساد رفاقه من الزنزانة، فكان الراحل أحمد فؤاد نجم يكتب عن المساجين والزنزانة والجلادين، وكان حجاب يحلم بما وراء القضبان بـ"دنيا تانية ومصر جنة".
وبينما كان الشيوعيون في السجون، وكان النظام يعلن أن كل الأمور تحت السيطرة هبطت صاعقة هزيمة يونيو فتبدل كل شيء، وتبدل حجاب معها، الذي قال "لم أكتب بشكل مباشر سوى بعد النكسة".
لم يكن حجاب يصف الواقع، إنما كان متمردًا عليه، يصف ما وراء الواقع الضيق، يصف واقعًا جديدًا يحلم به، ويأمل، ويقاتل، لتنفيذه.
المراحل التي مر بها حجاب في حياته هي التي شكلت مرحلة لعلها الأبرز، على الأقل لدى رجل الشارع العادي، في مسيرة "شاعر الفقراء"، وهي الشعر الغنائي، الذي استطاع أن يحقق فيه معادلة صعبة.
الفقراء دائمًا حاضرون في شعر حجاب ولكن بطريق مختلفة، كثيرون كتبوا عن العمال وبؤسهم، والفلاحين ومعاناتهم، يصفون القهر والظلم والاستغلال، ولكن حجاب رآهم برؤية حالمة، ربما يراها البعض طوباية، ولكنه –رغم هذه المباشرة التي قال عنها- لم يكن مباشرًا تمامًا، يرى الفقراء بعين شاعر لا بعين مناضل أو حقوقي.
في "الكيت كات" للراحلين داوود عبد السيد ومحمود عبد العزيز، يجلس الشيخ حسني في نهاية الفيلم على شاطئ النيل، ليتغنى بإحدى أشهر أغنيات حجاب، التي ربما تتوارى خلف بريق تترات المسلسلات، ليغني "يلا بينا تعالوا"، التي تتغنى بنضال الفقراء، الفلاحين والشغيلة، الذين يبذلون دماءهم خلف الكواليس، يلحظى بالضوء الواقفون فوق خشبة المسرح:
بص بص شوف
شوف الناس والظروف
يمكن تلقى الديابة
لابسة فروة خروف
يمكن تلقى الغلابة
في أول الصفوف
إما أن تكتب شعرًا يسكن الدواوين وإما أن تكتب أغنية تسكن الآذان، كان هذا هو السائد، والتوفيق بين الموقفين صعب، من الصعب أن تهبط بالشعر إلى الأغنية، ومن الصعب أن تصعد بالأغنية إلى الشعر، ولكن حجاب قدم قصيدة غنائية يصعب على القارئ والمستمع وضعها في أي من الإطارين السابقين، وقدم عددًا ضخمًا من تترات المسلسلات لعل أشهرها "ليالي الحلمية – المال والبنون – أرابيسك – بوابة الحلواني" وغيرها، التي جعلت البسطاء، وربما الأميين، يتغنون بقصائد على درجة عالية من الرقي، يحفظون شعرصا ربما لا يستمكنون من قراءته.
موسيقى متدفقة يشحن بها حجاب أغنياته، تتدفق النغمات خلال بيت واحد بقوافي متعددة، وتحوير للألفظ ولعب على تضادها وترادفها، واستخدام للصور كأنها أهدت لقصيدة فصحى، حتى لتشعر أنه كتبها قصيدة أولًا ثم قرروا تحويلها لأغنية، ولكن دون أن تفقد بساطة وسهولة الأغنية، التي يجب أن تكون قريبة من رجل الشارع.
بين التشاؤم – كما عند نجيب سرور- والادعاء كذبًا أن كل الأمور على ما يرام – كما عند كثيرين- وقف حجاب، وقف موقف الحالم، الرافض للواقع، والرافض أيضًا للاستسلام، والمؤمن بإمكانية التغيير، ولا عجب أن يصفه جمهوره بأنه شاعر الثورة، رغم رفضه لأن يدعي أحد أنه شاعرها.
وبعد 6 أعوام من الثورة التي يراهن البعض على ضياعها، أو على الأقل انحرافها عن مسارها، يقرر حجاب الرحيل في ذكرى اندلاع الحدث الذي أذهل العالم، والذي يقف صانعوه الآن حائرين، مرددين:
بحلم يا صاحبي
وأنا لسه بحبي
بدنيا تانية ومصر جنة
وآجي أحقق الحلم
ألقى موج عالي
طاح بي
ونعود سوا نطوي الأنين بالحنين!
Leave Comment
Comments
Comments not found for this news.