بقلم الأنبا إرميا
تحدثت المقالة السابقة عن حياة أنبا أنطونيوس التى أسست للحياة الرهبانية التى تزهد فى العالم وتسعى نحو الله، وأشارت إلى ارتباط اسم القديس أنبا أنطونيوس باسم القديس أنبا بولا أول السواح الذى وُلد بـالإسكندرية، والذى ترك العالم بإرادته منطلقًا إلى البرّية، فى حياة صلاة وزهد ونسك كان الله يعوله فيها.
وذات يوم شعر أنبا أنطونيوس فى أعماقه أنه أول من سكن الصحراء ليتعبد لله، لٰكن ملاك الله أرشده إلى أنبا بولا الذى سبقه فى حياة البرّية، والذى من أجل صلواته يرفع الله الجفاف عن العالم ويأتى بفيضان النيل فى حينه. اشتاق أنبا أنطونيوس أن يرى ذٰلك الإنسان الذى شهِدت له السماء؛ فانطلق فى الصحراء بإرشاد الله مسيرة يوم حتى وصل مغارة أنبا بولا فكان لقاء أب الرهبان وأول السواح. قص أنبا بولا حياته لـأنبا أنطونيوس، وتحادثا طويلاً عن الله وأعماله وإحساناته تجاه بنى البشر حتى أقبل الغروب، وحينئذ جاء الغراب حاملاً إليه القوت اليومى لـأنبا بولا كالمعتاد: نصف خبزة!، لٰكن هٰذه المرة كانت خبزة كاملة!، فقال أنبا بولا: الآن علمتُ أنك رجل الله: لى أكثر من ثمانين عامًا يأتينى الغراب بنصف خبزة، أمّا الآن فقد أتى بخبزة كاملة؛ هٰكذا أرسل الله إليك طعامك أيضًا؛ وفى نهاية حديثهما طلب أنبا بولا أن يأتيه أنبا أنطونيوس بالحُلة البابا أثناسيوس الرسولىّ الكهنوتية التى كان قد أهداها له الملك قُسطنطين، وذٰلك قبل أن ينتقل من هٰذا العالم قريبًا. أسرع أنبا أنطونيوس وسار فى الجبل يومين حتى بلغ مغارته، وأخذ الحُلة وعاد بها إلى أنبا بولا ليجده جاثيًا على ركبتيه فى وضع السجود لله، فانتظره ظانًّا أنه يصلى، لٰكن انتظاره طال جدًّا فاقترب إليه ليجده قد فارق الحياة!!، بكاه متأثرًا، ثم كفنه بالحُلة التى طلبها، ونزع عنه ثوب الليف الذى كان يلبَسه، ثم همّ يدفنه، لٰكنه كبير السن (قرابة تسعين عامًا) لا قدرة لديه على حفر قبر!، وبينما هو يفكر فيما يمكن عمله، إذ يبصر أسدين يتقدمان نحوه!!، فحدد لهما على الأرض مقدار طول الجسد وعرضه، فحفرا بمخالبهما كتحديده ومضيا!!، فشرع يدفن أنبا بولا، وهو يصلى، وكان ذٰلك عام 341م. أخذ أنبا أنطونيوس ثوب الليف وقدمه إلى البابا أثناسيوس؛ ففرِح به كثيرًا وكان يرتديه فى أعياد الميلاد والغطاس والقيامة. حاول البابا أثناسيوس البحث عن جسد أنبا بولا لإحضاره إلى الإسكندرية ودفْنه إلى جوار البطاركة الذين تنيحوا، لٰكنه لم يُفلِح؛ وهٰكذا كانت مشيئة الله أن يظل الجسد محفوظًا فى مكانه.
البابا أثناسيوس الرسولىّ
أيضًا ارتبط اسم أنبا أنطونيوس بـالبابا أثناسيوس الرسولىّ الذى لازمه زمانًا طويلاً تلميذًا، وتعلم منه أمورًا كثيرة، فاستحق أن يكون البطريرك المرتدى زى الرهبنة بيد أب الرهبان؛ وقد كتب لنا جانبا عريضًا عن حياته وفضائله منها: ومرات كثيرة كنت أراه، وأتقوى بتعاليمه، وأرافقه أوقاتًا غير قليلة. وكان يصب علىّ من ماء نعمته بحسب القوة التى فيه، كما وصفه بأنه: بالفعل كان يجمع بين محبة الناس وعدم الحقد. وفى السهر كان يعكف على التعلم. وتندهش لصبره ومثابرته فى الأصوام، ونومه على الأرض. وتعْجب لحفظه لجَلَده وطول أناته ووداعته...؛ كذٰلك أخبرنا البابا أثناسيوس عنه أنه جذب بحياته النقية وتقواه كثيرين فكان يحُثهم على حياة الفضيلة والتقوى والأعمال الحسنة التى سوف تسبقهم إلى السماء وتهيئ لهم ترحيبًا هناك. وقد قضى البابا أثناسيوس مع أنبا أنطونيوس قرابة ثلاث سنوات تشبّع فيها من تعليمه وحكمته وقداسته، وتمكن من تأليف كتابيه بُطلان الأوثان ووَحدانية الله.
ومما يُذكر للبابا أثناسيوس بحروف مضيئة تصديه لـآريوس المبتدع وأتباعه، وجهاده فى دفاعه عن الإيمان ضد كل تعليم غير صحيح، الذى ما إن ما سمِع به أنبا أنطونيوس حتى ترك البرّية من أجل مساندته: نزل من الجبل مع الأساقفة والإخوة، ودخل إلى الإسكندرية، وأعلن لأتباع آريوس زيف التعليم الذى يتبعونه، وأخذ يعلّم الشعب، حتى تعلقت قلوب الجميع به والتفوا حوله قائلين: نرجو رؤية رجل الله!؛ ثم عاد إلى البرّية. و... والحديث عن مِصر الحلوة لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى
القبطى الأرثوذكسى