بقلم سحر الجعارة
الواضح من الغضبة الإسلامية من الرسوم الكارتونية التى نشرتها صحيفة شارلى إيبدو هو أننا حتى الآن لم نستوعب مفهوم حرية الفكر والتعبير، رغم أنه أكثر المصطلحات شيوعاً.. ربما لأننا نعيش فى حالة ازدواجية، فالدستور المصرى ينص فى المادة 65 على أن: حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.. ورغم ذلك فلدينا منظومة قانونية تقيد هذا الحق، والتى أتمنى أن تكون محل عناية مجلس النواب فى تشكيله الجديد.
نحن إذن نتعامل مع مفهوم يتحطم على صخرة الواقع، نفرِّغه من محتواه، ونضع عليه قائمة من المحظورات، على رأسها موجات التكفير والتشهير والاغتيال المعنوى، إذا ما ضُبط أحد متلبساً بجريمة التفكير أو التعبير، ومتجاوزاً للخطوط الحمراء التى وضعتها -فى الحقيقة- جماعات تكفيرية وإرهابية وجدت فى التراث الدينى مرجعية فكرية.. أنا أتحدث -ببساطة- عن بلدان تعيش فى ظل مناخ مُعادٍ للحرية بينما دساتيرها تُلزم الجميع بممارستها.. فقط لكى أوضح الفرق بيننا وبين الغرب الكافر بالطبع وأمريكا.
فى عام 2003 نُشرت رواية شفرة دافينشى وهى رواية بوليسية خيالية للمؤلف الأمريكى دان براون.. وتبدأ أحداثها بالتحديد من متحف اللوفر الشهير عندما يُستدعى الدكتور روبرت لانغدون، أستاذ علم الرموز الدينية، على أثر جريمة قتل فى متحف اللوفر لأحد القيّمين على المتحف وسط ظروف غامضة.. ويكتشف لانغدون ألغازاً تدل على وجود منظمة سرية مقدسة امتد عمرها إلى مئات السنين، وكان من أحد أعضائها البارزين العالم إسحاق نيوتن والعالم الرسام ليوناردو دا فينشى. ومع الأحداث يكتشف لانغدون وصوفى نوفو سلسلة من الألغاز الشيقة والمثيرة التى تتناول علاقة السيد المسيح عليه السلام بـمريم المجدلية.. وقد أثارت هذه الرواية ضجة كبيرة فى أوروبا.. ورغم منعها فى الفاتيكان وبعض الدول الأوروبية والدول العربية، تجاوزت مبيعات الرواية حوالى 60 مليون نسخة فى الثلاث سنوات الأولى، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 60 لغة منها اللغة العربية.
وفى عام 2006 تحولت رواية شفرة دافينشى إلى فيلم روائى أمريكى، وتم عرضه فى ليلة افتتاح مهرجان كان السينمائى، ثم عُرض الفيلم فى بلدان مختلفة منها الولايات المتحدة.. رغم حملات المقاطعة التى تندد بالفيلم لأنه يثير الجدل حول تاريخ المسيحية!.
حتى البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، رحمه الله، رفض الفيلم من الناحية التاريخية واللاهوتية، وقال إنه يسىء للسيد المسيح.
الآن الفيلم يُعرض على شاشة MBC وموجود على اليوتيوب، والرواية متاحة فى العالم أجمع.. هذه هى حرية الفكر والإبداع كما يفهمها الغرب الذى تطلب منه تجريم كاريكاتير مسىء لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وترفض أن ترى فى نفس الجريدة شارلى إيبدو عشرات الرسومات التى تتناول باقى الرسل!.
فى أمريكا والغرب بلاد الكفار لا توجد تهمة تسمى ازدراء الذات الإلهية ولا الأديان، ولا يوجد قانون يجرم انتقاد رئيس الجمهورية أو يجنبه كاريكاتيراً ساخراً.
وبالمثل المادة 64 من الدستور المصرى تنص على أن حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون.. لكن القانون يجرم المذهب الشيعى ويحرم أتباعه من قضاء شعائرهم وكذلك يجرم الطائفة البهائية.. رغم أن السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى أكد، خلال منتدى شباب العالم 2018، أن حرية الاعتقاد مكفولة حتى للادينى.. لكن إن ثبت هذا على أى مواطن نقيم دعوى حسبة دينية!.
أعود إلى حرية الفكر والتعبير.. خلال 2016-2017 قدم النجم الأمريكى الشهير مورجان فريمان سلسلة أفلام وثائقية حول المفاهيم الأساسية والوجودية لأكبر الأديان على سطح الأرض، مركزاً على السماوية منها (الإسلامية، والمسيحية، واليهودية) إلى جانب استعراضه لمفاهيم دينية تاريخية تعود إلى مصر القديمة والهندوس والبوذية.. وعُرض على محطة ناشيونال جيوغرافيك.. نعم تستطيع أن تطرح أسئلة حول ماهية الروح، كيف ترى معظم الأديان الحياة بعد الموت، وما فكرة الحضارات المختلفة عن الخلق.. تستطيع أن تسأل من هو الله، كيف تستدل على وجوده؟؟.. إلخ الأسئلة الوجودية.. دون أن تُعتقل أو تُعلق على المشنقة.. هذه هى الحرية كما يؤمنون بها ويمارسونها.
تخيل أنك يمكن أن ترى البابا بندكت السادس عشر، البابا الفخرى للفاتيكان، وهو يعترف بخطاياه.. أحدثكم عن فيلم (البابوان - The Two Popes) وهو دراما وسيرة ذاتية عُرض عام 2019.. وتدور أحداث الفيلم فى الفاتيكان فى أعقاب فضيحة تسريبات الفاتيكان، ويتتبع الفيلم البابا بندكت السادس عشر، الذى يلعب دوره أنتونى هوبكنز، بينما يحاول إقناع البابا فرنسيس، الذى يلعب دوره جوناثان برايس، بإعادة النظر فى قراره بالاستقالة باعتباره رئيس الأساقفة وهو يُخفى نواياه بالتنازل عن البابوية.
المقدس الذى تعبده ويحتل عقلك ليس مقدساً فى بلدان كثيرة، والمسكوت عنه فى وطنك مستباح ومعترف به فى أوطان أخرى.. أوطان لا تقتل إنساناً بجريمة رسم ترى أنت أنه مسىء.. نعم أتحدث عن أوروبا والغرب الكافر.. فهناك تكون الحرية أحياناً هى الحقيقة، وأحياناً تكون وجهة نظر.. قطعاً أنت لا تصدق أن الأديان الإبراهيمية تحتمل أن تكون وجهة نظر ولا أن الرسل يمكن المساس بقدسيتهم، ولا الروح ولا الخالق مجال للمناقشة.. هذا أنت.
أنت لن تسلب الآخر عقله، وإن قتلته سوف يأتى غيره ليستكمل دوره.. مقاطعة فرنسا أو مقاضاتها هو إرهاب معنوى.. يحركه الداعشى الساكن بداخلك.. لكنك تعتقد أنه نصرة للإسلام ودفاع عن الدين.. لهم حريتهم ولكم دينكم.
Comment تعليق