
الرئيس السيسي:
مايصحوش المصريين إلا وحقهم راجع.. تفاصيل لحظة الحسم ضد الإرهاب والضربة الجوية المصرية التي دكت أوكار داعش
قداسة البابا تواضروس:
شهداؤنا تاج الكنيسة.. وتركوا لنا إرثا روحيا يعلمنا كيف يكون الإيمان صادقا
الأنبا بفنوتيوس:
رحلة فخر من استقبال الجثامين حتي المزار
من السنكسار القبطي إلي مذبح بالفاتيكان بصرخة يارب يسوع الصوت الذي هزم السيف
علي شاطئ مدينة سرت الليبية, حيث يلتقي الرمل بصخب الأمواج, وحيث تلامس مياه البحر المتوسط أقدام الزمن, شهد العالم مشهدا يختصر تاريخ الكنيسة القبطية منذ نشأتها. في ذلك المكان الذي بات محفورا في الذاكرة الإنسانية, وقف 21 رجلا, لا يحملون سلاحا ولا دروعا, بل يحملون إيمانا لا يتزعزع, ويشع من قلوبهم نور تحدي السيف وأبطل مفعول الرعب. كانوا عمالا بسطاء خرجوا طلبا للرزق, فكتبوا بدمائهم ملحمة إيمانية خالدة ستبقي تروي عبر الأجيال.
في الخامس عشر من فبراير عام 2015, حين سير هؤلاء الرجال في صف واحد علي رمال الشاطئ الباردة, بأرديتهم البرتقالية وأياديهم المكبلة خلف ظهورهم, لم يكن المشهد عاديا. كانت الكاميرات الإرهابية منصوبة لتوثيق لحظة أرادوا منها أن تكون رسالة خوف للعالم المسيحي, والصوت في الخلفية يقول: أيها الصليبيون إن الأمان لكم أماني, لكنها تحولت بفعل العناية الإلهية إلي صرخة إيمان مدوية تهز أرجاء الأرض. حينما اقتربت السكاكين من أعناقهم, لم يسمع صوت رعب أو استغاثة, بل ارتفعت شفاههم بصوت واحد: يارب يسوع. في تلك اللحظة, لم يكن البحر وحده هو الشاهد, بل السماء كلها فتحت أبوابها لتستقبل أرواحا طاهرة, اختارت الإيمان علي الحياة, والمجد السماوي علي البقاء الأرضي.
اليوم.. عشر سنوات مرت علي تلك اللحظة التي امتزج فيها دم الشهداء بمياه البحر, ولكن حرارة المشهد لم تخمد, ولم تخفف السنون من وقع اللحظة.. بقيت تلك الصرخة محفورة وشاهدة علي أن الإيمان المسيحي, الذي تأسس علي دماء الشهداء منذ قرون, ما زال ينبض بالحياة ويعلن مجده في كل زمان ومكان.
ذلك الصباح البارد علي شاطئ سرت لم يكن كسائر الأيام. كان مشهد الرجال, بأجسادهم المنهكة من العمل والغربة, وأرجلهم الغارقة في الرمال, يشبه مشهد مسيحيي القرون الأولي الذين قدموا في الكولوسيوم الروماني فريسة للأسود, لا لذنب اقترفوه, سوي أنهم أحبوا المسيح واتبعوه. كان البحر في الخلفية يئن بصوت خافت, وكأنه يرثي مصير أبنائه الذين سيقدمون بعد لحظات قربانا للحقيقة. الشمس, رغم محاولاتها اختراق الغيوم, بدت شاحبة وكأنها ترفض أن تضيء لحظة تلطخ فيها الرمل بالدماء المقدسة. كانت السماء بلون رمادي حزين, وسحابة ثقيلة من الألم جاءت لتغطي المشهد, حتي الهواء كان ساكنا رغم صوت الأمواج, وكأن البحر نفسه يحتبس أنفاسه احتراما للدماء الطاهرة التي سترويه.
في اللحظة التي رفع فيها داعش السكاكين, تلاقت أعين الشهداء في صمت. لم يحتاجوا للكلمات, فقد كانت صلاتهم المتواصلة علي مدي الأيام الماضية تغنيهم عن الكلام.. أحد الحراس الذين شهدوا المشهد قال لاحقا: رأينا نورا غريبا يحيط بهم. كانت شفاههم تتحرك بشكل متناغم, وكأنهم جوقة سماوية. وعندما اقتربت اللحظة الأخيرة, سمعتهم يرددون: كيرياليسون, كيرياليسون.. كان الصوت يهز الأرض.
ولأن الشهادة في المسيحية ليست مجرد موت, بل هي حياة تعاش بإيمان حتي اللحظة الأخيرة. وهؤلاء الرجال لم يكونوا لاهوتيين أو علماء, بل كانوا أناسا بسطاء خرجوا من قري محافظة المنيا, يحملون في قلوبهم إيمانا بسيطا وعميقا. لم يعرفوا حين غادروا بلادهم أنهم سيكتبون بأرواحهم واحدة من أعظم صفحات التاريخ المسيحي في العصر الحديث. كان من بينهم ماثيو إياريجيا, العامل الأفريقي الذي لم يكن قبطيا, لكنه, حين عرضت عليه النجاة مقابل إنكار إيمانه, قال بكل بساطة: أنا مسيحي مثلهم. في تلك اللحظة, ارتقي ماثيو من عامل مهاجر إلي شهيد إيمان, وامتزجت جنسيته الأفريقية بمصرية زملائه ليقدموا للعالم صورة الكنيسة الجامعة التي لا تعترف بحدود الجغرافيا ولا تفرق بين الألوان والأعراق.
لطالما كان البحر المتوسط شاهدا علي حضارات وأحداث غيرت وجه التاريخ, لكنه في ذلك اليوم أصبح شاهدا علي أقدس المشاهد. شهد البحر كيف أن الإيمان يمكنه أن يحول لحظة مأساوية إلي شهادة خالدة, ففي اللحظة التي امتزجت فيها مياه البحر بدمائهم, تحول شاطئ سرت من أرض رعب إلي أرض مقدسة, تشهد علي صمود الإيمان في وجه العنف.
يروي شهود العيان أن لون المياه تغير للحظات, وكأن البحر يوشح نفسه بدماء الشهداء, في إشارة إلي أن الشهادة ليست نهاية, بل بداية حياة جديدة. لقد أدرك العالم المسيحي حينها أن دماء هؤلاء الشهداء أبناء الكنيسة القبطية صاروا وديعة في ذاكرة المسيحية العالمية, ورسالة واضحة أن الإيمان الحقيقي لا يكسرهم, مرت السنوات, وتبدلت الأحداث, وتغيرت الوجوه, لكن ذكري الشهداء بقيت حية, بل ازدادت رسوخا, ففي كل عام, تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعيد شهدائها المعاصرين, لتذكر العالم بأن الإيمان ليس مجرد كلمات, بل حياة تعاش حتي النفس الأخير.
قرية العور.. حيث ولد الأبطال
في شوارع قرية العور, تسير الحياة بإيقاعها الهادئ المعتاد, لكن لكل بيت قصة ولكل زاوية ذكري. هنا, نشأ الشهداء في بيوت متواضعة, تربوا علي الإيمان البسيط, وتعلموا منذ صغرهم أن الصلاة حياة تعاش. حين وقع نبأ اختطافهم, خيم الحزن علي القرية, لكن وسط الدموع, ارتفعت الصلوات من أفواه الأمهات والأشقاء, ممزوجة برجاء سماوي أن يمنح الله أبناءهم القوة. وحين نشر الفيديو الذي وثق لحظة استشهادهم, كان وقع الألم ثقيلا, لكن كلماتهم الأخيرة: يارب يسوع اختصرت كل شيء. لقد أصبحوا شهداء, وتحولت قريتهم إلي مهد للشهادة في العصر الحديث. وسط هذه المشهد كان يقف وقتها اللواء صلاح زيادة محافظ المنيا وسط صراخ أهالي الشهداء, وبإيمان أن المصريين ضحوا بحياتهم متمسكين بإيمانهم كان التنسيق مع مطرانية سمالوط للأقباط الأرثوذكس لاختيار موقع لإنشاء كاتدرائية كبيرة باسم الشهداء والتي قرر رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي إقامتها علي نفقة الدولة, وتم اختيار موقع متميز وعلي مساحة كبيرة تتسع لأكبر عدد من المصلين لتصبح منارة روحية تطل علي القرية التي احتضنتهم صغارا, وها هي تودعهم شهداء.
وبإيمان عميق ورؤية روحية ثاقبة, أطلق نيافة الأنبا بفنوتيوس مشروع بناء كاتدرائية شهداء الإيمان والوطن في قرية العور كاتدرائية تخلد الإيمان الذي أظهره الشهداء في لحظة الموت. وعلي مدار أشهر طويلة, عمل المهندسون والعمال بجد وإخلاص, وكأنهم يشيدون بيتا مقدسا بأيديهم وقلوبهم. وعندما رفعت القبة فوق المذبح, ارتفعت معها مشاعر الفخر والرهبة. وفي يوم التدشين, الخميس 15 فبراير 2018 احتشد الآلاف من مختلف أنحاء مصر, ليشهدوا مولد هذا المعلم الروحي الذي أصبح وجهة للمؤمنين.
هنا داخل الكاتدرائية, يستقبلك تمثال ضخم يجسد مشهد الشهداء علي شاطئ سرت, يقف التمثال كأنه نافذة تطل منها الأرواح النقية, بأرديتهم البرتقالية وعيونهم المرفوعة نحو السماء. وفي مقدمة المشهد, يظهر السيد المسيح فاتحا ذراعيه, يستقبل أبناءه الذين ثبتوا في الإيمان حتي النفس الأخير.
متحف شهداء الإيمان ومزار التضحية
لم تكتف الإيبارشية ببناء الكاتدرائية, بل حرصت علي توثيق قصة الشهداء عبر متحف شهداء الإيمان, الذي افتتح عام 2020. هذا المتحف ليس مجرد مجموعة من الصور والمقتنيات, بل هو شهادة حية علي مسيرة هؤلاء الرجال من لحظة اختطافهم وحتي عودتهم إلي وطنهم.
عند دخول المتحف, تجد نفسك أمام بانوراما توثيقية ترصد الأحداث بالترتيب. تبدأ الرحلة بصور الشهداء قبل اختطافهم, تظهرهم بوجوههم البسيطة وابتساماتهم التي تخفي خلفها قلوبا مفعمة بالإيمان, ثم تأتي المرحلة التالية, وهي صور ومقاطع فيديو للحظة اختطافهم ونقلهم إلي سرت, حيث ظلوا محتجزين في غرفة صغيرة, يقضون لياليهم في الصلاة والتسبيح.
في منتصف المتحف, وضع مزار به النعوش التي حملت أجسادهم من ليبيا إلي مصر. إنها صناديق خشبية لكنها تحمل في طياتها قصصا من الصمود والرجاء, وبجوار كل الشهداء مقتنياتهم الشخصية: صلبان خشبية, أساور, ونسخ من الكتاب المقدس كانوا يحتفظون بها في غربتهم.
وعند خروجنا من المزار نجد النصب التذكاري الذي يجسد لحظة الاستشهاد, صمم هذا النصب بدقة, بحيث تري 21 رجلا راكعين علي الشاطئ, ورؤوسهم مرفوعة إلي أعلي, بينما يحيط بهم نور سماوي. وفي الأعلي, علي ارتفاع أربعة أمتار, يقف تمثال السيد المسيح بذراعيه المفتوحتين. هذا التمثال لا يجسد فقط لحظة النصر الروحي, بل يذكر كل زائر بأن الشهادة ليست نهاية, بل عبور إلي المجد الأبدي.
الاحتفال بالذكري العاشرة: دموع ورجاء
في 14 و15 فبراير 2025, تزينت كاتدرائية شهداء الإيمان والوطن احتفالا بذكري مرور عقد علي استشهادهم.. ازدانت الأروقة بالورود البيضاء, رمز النقاء والطهارة, ومنذ ساعات الصباح الأولي, بدأ المؤمنون يتوافدون من القري المجاورة, حاملين في قلوبهم الرجاء والصلوات. وفي مساء 14 فبراير الجاري, ترأس نيافة الأنبا بفنوتيوس صلاة رفع بخور عشية العيد. كان صوت التسبيح يملأ المكان, بينما اختلطت الدموع بالصلوات, وفي صباح اليوم التالي, احتشد المصلون لحضور القداس الإلهي. وقف نيافة الأنبا بفنوتيوس أمام المذبح, وبعينين تلمعان تأثرا, ألقي عظته التي حملت مشاعر جياشة, قال نيافته:
لقد كان شهداؤنا هؤلاء رسلا للإيمان, لم يتخرجوا من معاهد لاهوتية, لكنهم تعلموا في مدرسة الصليب. لم يبحثوا عن الموت, لكن عندما جاءهم, احتضنوه بقلوب مملوءة بالمحبة والسلام. ونحن إذ نحتفل اليوم بمرور عقد علي شهادتهم, نجدد العهد بأن نبقي أمناء علي إيمانهم.
قصة الشهادة من الزنزانة إلي شاطئ سرت
أعود بكم الآن إلي حياة شهدائنا وكيف عبروا من الزنزانة إلي شاطئ المجد, حجرة صغيرة جمعتهم في البداية ولكن لم تكن الجدران التي أحاطت بهم سوي حجارة صامتة, لم تستطع أن تخمد نار إيمانهم أو تطفئ نور صلواتهم. كان الشهداء يعيشون روح الكنيسة في زنزانتهم الصغيرة. تحولت تلك المساحة الضيقة إلي مذبح مقدس, كانت الصلوات ترتفع كالبخور. كانوا يصلون طوال في الليل: يارب يسوع.. كيرياليسون.. يارب ارحم, أحد الحراس الذين شهدوا تلك الفترة, قال لاحقا: كنا نراهم يصلون بلا توقف. كانوا ينشدون تراتيلهم وكأنهم في كنيسة, وليس في زنزانة. رأينا وجوههم تضيء, ولم نفهم سر هذه القوة. لم يكن السلام الذي أحاط بهم نتيجة قوة جسدية أو شجاعة بشرية, بل كان سلاما إلهيا نابعا من يقينهم بأن الله معهم. كانوا يرددون آيات الكتاب المقدس, ويذكرون بعضهم البعض بوعد المسيح: ها أنا معكم كل الأيام إلي انقضاء الدهر. كانت كلماتهم بسيطة لكنها مشبعة باليقين. أحدهم قال لرفاقه ذات ليلة: نحن لسنا هنا.. نحن في حضرة المسيح. هو معنا في كل لحظة.
أعتقد أن ذلك السلام جعل حتي حراسهم يقفون في حيرة, كما كنا نشاهد في الأفلام المسيحية بسير الشهداء والقديسين اندهاش من كانوا يقومون بتعذيبهم ويتساءلون.. كيف يمكن لأشخاص يعيشون في هذه الظروف أن يصلوا بفرح؟
ضمت الزنزانة الشهداء: عصام بدار, جرجس سمير, أبانوب عماد, ملاك فرج, جابر منير, سامح صلاح, ماجد سليمان, هاني عبدالمسيح, ميلاد مكين, كيرلس بشري, ملاك إبراهيم سنيوت, يوسف شكري, لوقا نجاتي, مينا فايز, بيشوي إسطفانوس, تواضروس يوسف, صموئيل إسطفانوس, جرجس ميلاد, صموئيل إلهم ولسن, عزت بشري, وانضم لهم ماثيو الأفريقي الذي لم يكن قبطيا لكنه عاش معهم في تلك المحنة. رأي في صلواتهم إيمانا مختلفا, وفي وحدتهم محبة حقيقية, وعندما عرضت عليه فرصة النجاة مقابل إنكار المسيح, قال بكل بساطة: أنا مسيحي مثلهم. في تلك اللحظة, أصبح ماثيو شاهدا حيا علي أن الإيمان ليس هوية عرقية أو وراثة عائلية, بل اختيار واع للقلب. لقد رأي في الشهداء إيمانا ملهما, فاختار أن يسير معهم في نفس الطريق, طريق الصلاة والثبات حتي النهاية.
موقف الدولة المصرية: كرامة لا تهان
ونحن نقلب في أوراق هذه الأيام بعد عقد كامل أتذكر معكم مشهد هذه الليلة الذي خيم عليها الحزن والأسي, وعقب بث التنظيم الإرهابي لمقطع الفيديو, اهتزت مشاعر المصريين جميعا, مسلمين ومسيحيين, كبارا وصغارا. لم يكن المشهد مجرد حادثة إرهابية عابرة, بل كان اعتداء وحشيا علي كرامة المصريين في الخارج, وعلي إيمانهم العميق المتجذر منذ آلاف السنين.
كانت لحظة استشهاد العمال المصريين صدمة زلزلت وجدان الأمة. مشهد الرجال الذين سرقت منهم حياتهم بوحشية, انتشر كالنار في الهشيم. اجتمعت الأسر المصرية أمام الشاشات في حالة من الذهول والدموع تملأ العيون. لم يكن هؤلاء الشهداء مجهولين, بل كانوا أبناء أرض مصر, أبناء المنيا وصعيد مصر الطاهر. كانوا شبابا خرجوا للبحث عن لقمة العيش, فعادوا إلي وطنهم محمولين علي الأكتاف.. ومع انتشار الفيديو, علت الأصوات تطالب بالرد. لم يكن المطلب انتقاما أعمي, بل قصاص عادل يستعيد كرامة المصريين التي حاول الإرهاب أن ينال منها. ومن قلب هذا الحزن, انبثق موقف الدولة المصرية الذي جاء سريعا, واضحا, وحاسما.
الرئيس في قلب الحدث
في تلك الليلة, اجتمع الرئيس عبدالفتاح السيسي بقيادات القوات المسلحة والأجهزة السيادية لمتابعة الموقف منذ لحظة انتشار الفيديو, وكان حاسما في قراره. قال بصوت لا تخطئه الأذن: مايصحوش المصريين بكرة إلا وحقهم راجع لهم. كانت هذه الكلمات بمثابة الأمر العسكري الذي أطلق العنان للرد المصري. وعقب ذلك, دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي فورا لاستصدار قرار من الأمم المتحدة يمنح تفويضا لتشكيل تحالف دولي للتدخل في ليبيا, قصفت بعدها الطائرات المصرية أهدافا لتنظيم داعش بعد موافقة الحكومة الليبية.
الفجر الذي حمل معه القصاص
وفي فجر السادس عشر من فبراير 2015, وبينما كانت الشمس تستعد لبزوغ ضوئها, كانت المقاتلات المصرية من طراز إف-16 قد حلقت بالفعل في السماء متجهة نحو ليبيا. الطيارون, الذين وضعوا دماء إخوانهم الشهداء أمام أعينهم, كانوا يدركون أن مهمتهم ليست مجرد غارة جوية, بل استعادة كرامة وطن. عبرت المقاتلات الحدود المصرية- الليبية, متجهة بدقة نحو الأهداف المحددة مسبقا. وعند الساعة الرابعة فجرا, انطلقت القوات لتدك معسكرات التدريب ومخازن الأسلحة ومراكز القيادة التابعة لتنظيم داعش في مدينة درنة. اختلط صوت الانفجارات بصمت الصحراء الليبية, لتعلن مصر أن يدها ليست قصيرة, وأن من يعتدي علي أبنائها لن يفلت بفعلته.
بيان القوات المسلحة: الثأر لدماء المصريين
عقب انتهاء العملية الجوية, أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة بيانا رسميا جاء فيه: تنفيذا للحق في الدفاع عن النفس, والقصاص من القتلة والمجرمين, قامت قواتنا الجوية فجر اليوم بتوجيه ضربات مركزة لمعاقل تنظيم داعش الإرهابي بالأراضي الليبية. لقد استهدفت الضربات مراكز تدريب ومخازن أسلحة تابعة للتنظيم, وحققت أهدافها بدقة. ونحن إذ نؤكد أن دماء المصريين ليست محل مساومة, نعاهد الله والوطن بأن نحافظ علي أمن هذا الشعب العظيم وسلامته. هذا البيان, الذي بث عبر القنوات التلفزيونية, كان كفيلا بأن يعيد للمصريين جزءا من شعورهم بالأمان. وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات تمجد القوات الجوية المصرية, وكانت الجملة الأكثر تداولا: الدم المصري غال.. الجيش المصري يعرف كيف يرد.
المشهد الشعبي: مصر كلها يد واحدة
في صبيحة ذلك اليوم, استيقظ المصريون علي صوت المقاتلات العائدة من مهمتها بعد أن أدت واجبها الوطني. خرج الناس إلي الشوارع, بعضهم يرفع العلم المصري, وآخرون يرددون: تحيا مصر.. تحيا مصر. لأول مرة منذ سنوات, شعر المواطنون بأن الدولة وقفت سدا منيعا أمام محاولات النيل من كرامتهم. وفي قرية العور, حيث ولد معظم الشهداء, كانت الأمهات يرفعن أياديهن للسماء, يشكرن الله علي القصاص العادل.