
رؤية من موكب المجد
حلم وحدة الكنائس والشركة الرسولية واحد من أحلام البطريرك الـ118 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية, جاء به إلي السدة المرقسية قداسة البابا تواضروس الثاني.. جاء ليفتح صفحة جديدة علي طريق وحدة الكنائس.. تراءي هذا مع اللحظة الأولي لموكب المجد عند تجليس قداسته عل كرسي القديس مرقس الرسول, وكأن الرب أراد إن يعلن عن حلم من أحلام البابا القادم.
المتأمل في جمع الآباء الأجلاء شركاء الفرح في مراسم التجليس يشعر بهذه المثالية البديعة في الاتحاد بالمسيح ويري حلم البابا المسكوني.. ويوما بعد يوم علي امتداد عشر سنوات وقداسته يعيش حلمه ويقطع الخطوات علي طريق تحقيقه.. وخطوة بعد خطوة يقترب من الوحدة.. رحلة طويلة عمرها الآن عشر سنوات عشناها مع قداسة البابا تواضروس الثاني منذ البداية.
البداية كانت مع شركاء الفرح في يوم التجليس.. عن هذا حدثني قداسته في حواري الذي جاء بعد عام من جلوسه علي الكرسي المرقسي بابا وبطريركا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.. عن هذا قال لي:
* في حفل التجليس شاركنا رؤساء الكنائس من كل الطوائف المسيحية, وحضرت وفود من كل كنائس العالم, ولمست مشاعري كلمات مار أغناطيوس زكا بطريرك الكنيسة السريانية, وصاحب الغبطة غريغوريوس الثالث لحام بطريرك الروم الكاثوليك, والبابا ثيئودوروس دوروس الثاني بطريرك الروم الأرثوذكس, ومار بشارة الراعي بطريرك الموارنة.. قدموا في كلاماتهم التهنئة, وأكدوا صلواتهم من أجل الكرسي المرقسي معلنين مد أيديهم للبدء في شركة الخدمة الرسولية والحوار من أجل توحيد كنائسنا للشهادة الواحدة والإيمان الواحد.. كلماتهم كانت نورا لطريق أحب السير فيه وأتمناه, وحلما أري فيه صورة السيد المسيح المصلوب علي الصليب وذراعه مفتوحة يرحب بالكل.. رأيت في هذا اليوم إرادة الله ترتب لكل ما هو حسن وجيد وحسب ما نريده ونرتضيه.
كلمات البابا المسكوني لم تقف يومها عند مشاعري فقط إذ تبعته بسؤال: حوار الكنائس للوحدة ممتد منذ سنوات, ولكن الأيام القليلة لرئاستكم للكنيسة الأم حفلت بلقاءات مع الكنائس الأخري استشعر معها الكثيرون أننا نقترب من هذه الوحدة.. ما حقيقة الموقف؟
هنا قال لي قداسة البابا تواضروس:
* دعني أوضح أن وحدة الكنائس لا تعني اندماج وانصهار كنيسة في أخري, ولكنها تعني الاتحاد التام مع الرأس في شخص السيد المسيح, وحقيقة الأمر أن الوحدة لها خطان.. خط الإيمان والعقيدة ومحوره الحوارات اللاهوتية التي تحاول حل مشكلات الاختلافات العقائدية واللاهوتية الموجودة بين الكنائس.. هذه الاختلافات موجودة منذ أكثر من 15 قرنا من الزمان. وتراكم هذه الاختلافات علي امتداد هذه الأجيال لن تحل في جلسة أو اجتماع واحد ولابد أن يستغرق حلها زمنا طويلا أيضا.. أما الخط الثاني في طريق وحدة الكنائس, وهو الأكثر مساحة, فهو خط المحبة وحياة الشركة.. وشركة المحبة تعتمد علي أننا جميعا كمسيحيين لنا إنجيل واحد, ولنا مسيح واحد, ونبحث عن هدف واحد وهو ملكوت السموات.. وعلي هذه النقاط الرئيسية في حياتنا ينبغي أن تكون خطواتنا نحو الوحدة, وأن يتم تفعيلها من خلال اللقاءات المتبادلة, ومن خلال صلواتنا المشتركة معا بعيدا عن الاختلافات العقائدية واللاهوتية, ومن خلال أعمال المحبة في معالجة القضايا المجتمعية, حتي مجرد أن نتقابل ونجلس معا فهذا في حد ذاته فيه خطوة نحو الوحدة.
بهذه المشاعر التي حدثني عنها قداسة البابا تواضروس منذ اليوم الأول لجلوسه علي الكرسي المرقسي.. وبهذه الرؤية المستنيرة التي أوضحها لي بعد عام من رئاسته للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.. كانت رحلة قداسته نحو وحدة الكنائس.. رحلة عمرها عشر سنوات حافلة باللقاءات والاجتماعات والحوارات.. والأهم حافلة بالمحبة.. عند محطات هذه الرحلة سنقف اليوم نسترجع ونستنشق رائحة المحبة الزكية ونري حلم البابا المسكوني وهو يتحقق خطوة خطوة.
* مشيئة الرب.. علي طريق الوحدة
عندما جلس قداسة البابا تواضروس الثاني علي الكرسي المرقسي يراوده حلم وحدة الكنائس, كان المتنيح مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث قد سبقه منذ سنوات في محاولات لتشكيل مجلس لكل كنائس مصر.. وشاء الرب أن تكتمل هذه المحاولات في حبرية البابا تواضروس الثاني حسب شهوة قلبه في كنيسة واحدة جامعة مقدسة, فبعد ثلاثة شهور بالتمام والكمال من جلوس قداسته علي السدة المرقسية ـ أي يوم 18 فبراير 2013 ـ اجتمع البابا تواضروس الثاني رئيس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في المركز الثقافي القبطي فوق أرض الأنبا رويس مقر الكرسي المرقسي.. اجتمع قداسته مع رؤساء الكنائس المصرية الأربع الأخري ـ كنيسة الروم الأرثوذكس, الكنيسة القبطية الكاثوليكية, الكنيسة الإنجيلية, الكنيسة الأسقفية ـ ووقعوا علي قرار إنشاء مجلس كنائس مصر وأعلنوا نظام العمل بالمجلس وهدفه التعاون بين الكنائس الأعضاء في المجالات المشتركة والقضايا المسيحية والوطنية مع استمرار الحوارات بين الكنائس حول الأمور اللاهوتية والعقائدية من أجل وحدة الإيمان وتدعيم المحبة من خلال 13 لجنة منبثقة منه تغطي كل المجالات.
ومرة أخري ظهرت مشيئة الله علي طريق الوحدة ليتحقق حلم البابا تواضروس الثاني ويكون له حسب شهوة قلبه, ففيما كان قداسته يعيش مع حلمه في وحدة الكنائس والشركة الرسولية تذكر أن يوم 10 مايو القادم بعد جلوسه علي السدة المرقسية يوافق مرور 40 سنة علي زيارة البابا شنودة الثالث للفاتيكان وتوقيع اتفاقية بداية الحوار اللاهوتي مع قداسة البابا بولس السادس بابا الفاتيكان في ذلك الوقت, واشتهي البابا تواضروس أن يبدأ رحلته علي طريق وحدة الكنائس بزيارة الفاتيكان في هذا اليوم, وأن يجعل من هذا اليوم ـ 10 مايو من كل عام ـ عيد تحتفل فيه الكنيستان القبطية والكاثوليكية بهذه الذكري كعلامة للمحبة التي تربط بينهما.
لكن بدا أن الحلم يعيد عن التحقيق فبروتوكول الفاتيكان يقتضي تنظيم الزيارة قبل موعدها بثمانية أشهر. وهنا ظهرت مشيئة الرب, ففي 3 أبريل 2013 زار سفير الفاتيكان في مصر قداسة البابا تواضروس لتقديم التهنئة والتعرف علي قداسته, وأبدي البابا تواضروس شهوة قلبه, وقد كان لقداسته ما اشتهاه, ورحب قداسة البابا فرانسيس.. وفي يوم 10 مايو 2013 كانت الزيارة التاريخية لبابا الكنيسة القبطية للفاتيكان.. وصار يوم 10 مايو من كل عام يوما لذكري العمل علي وحدة الكنيسة.
يجول.. يزرع المحبة
لم يبتعد حلم قداسة البابا تواضروس الثاني في وحدة الكنيسة عن عينيه لحظة واحدة وإينما كان.. ففي أثناء زيارة قداسته للكنيسة القبطية بجنيف في أول سبتمبر 2014 زار قداسته مجلس الكنائس العالمي, والتقي مع الأمين العام الدكتور كولاها.. وجاء حرص قداسة البابا علي هذه الزيارة من دافع شهوة قلبه في وحدة الكنيسة كون مجلس الكنائس العالمي هو بداية العمل المسكوني بين الكنائس والطوائف منذ ما يقرب من 75 عاما عندما تأسس في عام 1948 بهدف التقارب والتحاور بين الكنائس الغربية والشرقية للعمل من أجل الوحدة المسيحية.
والحديث هنا عن مجلس الكنائس العالمي يأخذنا بالضرورة إلي اجتماع الجمعية العمومية الأخير للمجلس التي عقدت بألمانيا في الفترة من 31 أغسطس إلي 8 سبتمبر من هذا العام, ففيها انتخب صاحبا النيافة الأنبا توماس أسقف القوصية ومير والأنبا أبراهام أسقف لوس أنجيلوس لعضوية اللجنة المركزية للمجلس والتي تعمل كهيئة رئيسية لصنع القرار, كما انتخب الأنبا توماس لعضوية اللجنة التنفيذية للمجلس التي تضم عشرين عضوا وتولي تيسير كل الأعمال المالية والإدارية للمجلس.. وهي خطوات علي طريق العمل المسكوني للكنيسة القبطية الأرثوذكسية يقترب بنا إلي تحقيق حلم قداسة البابا تواضروس الثاني لوحدة الكنيسة.
وأذكر هنا أن قداسته في حوار معي أواخر عام 2014 بعد زيارته لمجلس الكنائس العالمي, وكان الحديث يدور حول رؤية قداسته للعمل المسكوني.. أذكر أن قداسته قال لي:
إن التواصل بين الكنائس شرقا وغربا واجب كنسي هام, ولا يعني فقط مجرد الحوارات اللاهوتية التي تصطدم بصعوبات تاريخية ولغوية وأحيانا عقائدية, وإنما يعني أيضا التعاون في آفاق واسعة من المحبة والمودة الأخوية لتمهد المسيحيين فكرا وعملا قبل أن نصل إلي وحدة الإيمان الهدف المنشود والذي نسعي إليه لعلنا ندركه قبل مجيء المسيح حيث ننتظر يوم الرب بشغف ولهفة.
وأذكر أن قداسته قال لي في ذات الحوار إن زيارته إلي النمسا هذا العام كانت لحضور احتفال هيئة يروأورينتا باليوبيل الذهبي لتأسيسها وهي الهيئة المعنية بالحوار بين الكنيستين الأرثوذكسية في الشرق والكنيسة الكاثوليكية في الغرب.. وأن قداسته ألقي كلمة في هذا الاحتفال الذي أقيم في فيينا طرح فيها اقتراح توحيد موعد عيد القيامة في كل الكنائس المسيحية في العالم, وقوبل الاقتراح بترحاب شديد من كل الكنائس المشاركة.
وفي ذات الحوار ـ وكان جانب كبير منه يدور حول العمل المسكوني لقداسته ـ حدثني عن زيارته إلي روسيا الأرثوذكسية.. حدثني بفرح عن كل ما شاهده وتلامس معه في كل الأماكن التي زارها من كنائس وأديرة وملاجئ ومتاحف.. وعن مقابلة صاحب القداسة البطريرك كيريل بطريرك موسكو وكل روسيا, والتي تكللت بتشكيل لجنة مشتركة بين الكنيستين لوضع مجالات التعاون بينهما موضع التنفيذ.
واليوم مضت عشر سنوات في حبرية البابا تواضروس الثاني وهو يجول يزرع المحبة في كل الكنائس من أجل وحدة الكنيسة فاستحق أن يحمل لقب البابا المسكوني.. ومع الاحتفال بالعيد العاشر لتتويج قداسة البابا تواضروس الثاني بطريركا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية, أوفد قداسة البطريرك كيريل, بطريرك موسكو وعموم روسيا, المطران أنطوني فوك كولامسك لتقليد قداسته وسام المجد والكرامة أعلي الأوسمة في الكنيسة الروسية الأرثوذكسية تقديرا لجهود قداسته في تطوير العلاقات بين الكنيستين القبطية والروسية وكل كنائس العالم من أجل الوحدة المسيحية.
* كنائس الشرق.. واقتراب الحلم
علي طريق وحدة الكنيسة كان مجلس كنائس الشرق الأوسط علامة فارقة.. تاريخه يرجع إلي ما يقرب من نصف قرن منذ تأسيسه عام ..1974 وعندما جاء موعد انعقاد الجمعية العمومية لدورتها الثانية عشرة في مايو الماضي من هذا العام ـ 2023 ـ والتي تضم كل أصحاب القداسة البطاركة ورؤساء كنائس الشرق الأوسط وعددها 24 كنيسة ينتمون إلي أربع عائلات كنسية.. ومن شهوة قلب قداسة البابا تواضروس الثاني لوحدة الكنيسة دعا قداسته لعقد الجمعية العامة علي أرض مصر.. واستضاف مركز لوجوس البابوي بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون اجتماع الجمعية العامة لمجلس كنائس الشرق الأوسط لأول مرة علي أرض مصر المباركة.. وناقش المجتمعون في ضيافة قداسة البابا تواضروس الثاني الساعي لوحدة الكنيسة كل قضايا مسيحيي الشرق الأوسط تحت شعار الآية تشجعوا أنا هو لا تخافوا مؤكدين أن حضورهم في وحدتهم.. وهوالحلم الذي يراود قداسة البابا المسكوني الأنبا تواضروس الثاني ويسعي إلي تحقيقه.
ومرة أخري تأكد هذا عندما استقبل الرئيس عبدالفتاح السيسي رؤساء النائس المشاركين في الجمعية العامة لمجلس كنائس الشرق الأوسط بقصر الاتحادية مؤكدا لهم أن المسيحيين في جميع الدول العربية جزء أصيل من نسيج المجتمع العربي, وأن المواطنة والحقوق المتساوية للجميع من قيم ثابتة تمثل نهج الدولة المصرية تجاه جميع المواطنين.
كانت أياما مفرحة رأي فيها قداسة البابا تواضروس الثاني قول داود النبي هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معا.. ورأي فيها المجتمعون عمل الصلوات المرفوعة من الآباء الرهبان ساكني هذا المكان منذ القرن الرابع الميلادي, فامتدت حواراتهم حول الشهادة المسيحية, والعلاقات المسكونية والدياكونية, والخدمة الاجتماعية, والتواصل والدعم, والتماسك الاجتماعي, وانتهت إلي وضع رؤية مستقبلية تكفل تعزيز الروح المسكونية وتحقيق الأهداف الإنسانية والاجتماعية الملحة لجميع مسيحيي الشرق الأوسط.. ورأيت حلم البابا تواضروس في الوحدة يقترب.