
تستعد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لبدء صوم السيدة العذراء مريم، بعد غدٍ الخميس، الذى يستمر لمدة ١٥ يومًا، وتُقام خلاله الصلوات والقداسات اليومية والنهضات الروحية فى مختلف الكنائس.
ويُعد «صوم العذراء» من أصوام الدرجة الثانية فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويتميّز بكونه الصوم الوحيد الذى فرضه الشعب على الكنيسة، بحسب المراجع التاريخية، وهو من أكثر الأصوام قربًا إلى قلوب الأقباط، لما يحمله من طقوس مميزة ومحبة خاصة للعذراء مريم، ويمتنع الأقباط خلاله عن تناول اللحوم ومنتجاتها، مكتفين بالأطعمة النباتية، كما يُسمح لهم بتناول الأسماك، بينما يختار البعض الالتزام بالزهد والتقشف الشديد، عبر تناول الخبز والملح فقط، تنفيذًا لنذور شخصية أو تعبيرًا عن التقوى.
وتتشابه الكنائس فى توقيت هذا الصوم ومعظم طقوسه، لكن بينما يمتد لمدة ١٥ يومًا فى الكنيسة القبطية وعند الروم الأرثوذكس، فإنه يقتصر على ٥ أيام فقط فى كنيستَى السريان والأرمن الأرثوذكس، وعلى يومَى جمعة فقط لدى الكلدان الكاثوليك.
توافد ملايين المسيحيين والمسلمين من جميع المحافظات على «دير درنكة» للاحتفال
يشهد دير السيدة العذراء بجبل درنكة فى أسيوط، وهو إحدى أبرز محطات رحلة العائلة المقدسة، توافد مئات الملايين من الزوار من جميع محافظات الجمهورية خلال فترة الصوم، سواء من المسيحيين أو المسلمين، للمشاركة فى الفعاليات الروحية، طلبًا للبركة، وتعبيرًا عن حبهم للعذراء.
ويحظى دير درنكة بمكانة تاريخية وروحية كبيرة، إذ يُعتبر المحطة الأخيرة فى مسار العائلة المقدسة بعد مجيئها إلى مصر، حيث قدمت إليه السيدة مريم العذراء والمسيح عليه السلام وهو طفل صغير، بصحبة القديس يوسف النجار، بعد أن تركت العائلة المقدسة فلسطين وطنها واتجهت نحو البلاد المصرية، قاطعة صحراء سيناء حتى وصلت شرقى الدلتا، مجتازة بعض بلاد الوجه البحرى فالقاهرة ومنها إلى صعيد مصر حتى مدينة أسيوط، ثم إلى جبلها الغربى، حيث المغارة المعروفة التى حلت بها.
ويُشرف الأنبا يؤانس، أسقف أسيوط وتوابعها، على دورة العبادات اليومية التى تُقام داخل الدير طوال شهر أغسطس، حيث تبدأ فى السادسة مساءً بالصلاة داخل المغارة التى احتضنت العائلة المقدسة خلال وجودها فى أسيوط، ثم يخرج الأسقف وهو يتوسط موكبًا مهيبًا وتحيط به جموع الزائرين، ويتقدمه عشرات الشمامسة من مختلف الأعمار، مرتدين «التونية»، وهى الزى الكنسى الأرثوذكسى، حاملين صور العذراء مريم والسيد المسيح والصليب.
ويُعد هذا الموكب من أبرز المشاهد الروحانية التى تميز احتفالات درنكة، حيث يمر فى طرقات الدير وسط تسابيح ومدائح تتعالى من الحضور فى مشهد مهيب ومؤثر.
وتقام خلال فترة الصوم قداسات صباحية ونهضات مسائية تبدأ من السادسة وحتى العاشرة مساءً، وتتخللها تراتيل ومدائح خاصة بالسيدة العذراء، كما يترأس الأنبا يؤانس تسبحة نصف الليل بمشاركة الزوار، فى طقس مميز يُضفى على الأجواء روحانية استثنائية.
وعادة ما يشهد محيط دير درنكة، خلال هذه الفترة، وجودًا أمنيًا مكثفًا، مع تثبيت بوابات تفتيش إلكترونية بجميع المداخل، وإصدار تنبيهات لزوار الدير، وطلب إبراز بطاقة إثبات الهوية عند الدخول، خاصة أن عدد الزوار الأقباط والمسلمين خلال الاحتفالات فى الدير يتخطى مليونى زائر سنويًا من مختلف محافظات مصر، بالإضافة إلى وجود عدد ضخم من الزوار الأجانب.
«رسل المسيح» أول من بدأوا الصوم عند وفاة القديسة مريم
حول قصة «صوم العذراء»، قال الباحث الكنسى كيرلس كمال إن قصة الصوم بدأت عند وفاة العذراء مريم، راويًا أنه بعد ما تبارك رسل المسيح من جسدها دفنوه بإكرام، وظلت أصوات التسبيح تعم مكان القبر نحو ثلاثة أيام، ثم انقطعت هذه الأصوات لأن الملائكة حملوا الجسد الطاهر فى اليوم الثالث من نياحتها إلى السماء.
وأضاف: «كان توما الرسول، وهو أحد تلاميذ ورسل المسيح، يبشر فى بلاد الهند والعرب، وعند عودته رأى ملائكة على أحد الجبال يطلبون منه أن يسرع ليتبارك من جسد القديسة مريم قبل صعوده إلى السماء، وعند عودته إلى أورشليم طلب رؤية جسد العذراء، متعللًا بأنه لا يصدق موتها، وعندما فتح الرسل القبر لم يجدوا الجسد، فأخبرهم القديس توما برؤيته الجسد وهو صاعد إلى السماء».
وتابع: «قرر الآباء الرسل الذين فى أورشليم أن يصوموا لكى يظهر الله لهم أمر الجسد ويعلمهم بمكانه، وظلوا صائمين لمدة أسبوعين، حتى ظهر لهم المسيح ومعه القديسة العذراء مريم، وأعلمهم بأخذه جسدها إلى السماء، فاحتفلت الكنيسة بذلك».
وتابع: «ملخص الأمر أن من بدأ (صوم العذراء) هم الآباء الرسل بهدف معرفة مكان جسد السيدة العذراء، حتى إعلان الله ذلك لهم، وقد سمى هذا الصوم بـ(صوم العذراء)، ليس لأننا نصوم لها، بل لأن الفطر يكون فى يوم عيد من أعياد السيدة العذراء، وهو يوم إعلان صعود جسدها للسماء».
الصوم الوحيد الذى فرضه الشعب على الكنيسة
من جهته، قال مرقس ميلاد، الباحث الكنسى، إن صوم العذراء مريم من الأصوام المحببة جدًا للشعب القبطى، وهو الصوم الوحيد الذى فرضه الشعب على الكنيسة بعكس باقى الأصوام الكنسية.
وبيّن أن صوم العذراء بدأ كممارسة شعبية حتى صار ضمن الأصوام الرسمية للكنيسة ولم يرد ذكره فى القوانين الكنسية حتى القرن الـ١١، ومما يؤكد ذلك هو عدم ذكره فى قوانين البابا خرستوذولوس الـ٦٦.
وأضاف: «أول ذكر لذلك الصيام كان فى كتاب الديارات لمؤلفه الشابشتى فى القرن العاشر، حيث قال (وببغداد دير يعرف بدير العذارى فى قطيعة النصارى على نهر الزجاج، ويسمى بذلك لأن لهم صوم ٣ أيام قبل الصوم الكبير يسمى صوم العذارى)».
وتابع: «أكد كلامه كل من أبوالفرج الأصفهانى فى القرن العاشر، وأيضًا الشيخ القبطى أبوالمكارم، حيث ذكر أن الصيام مدته ٣ أيام فى بغداد، وقد ذكر أبوالمكارم فى كتابه الأديرة والكنائس فى القرن الـ١٢ (أن صوم العذارى بمصر من أول مسرى إلى الحادى والعشرين منه ويتلوه فصحهم فى الثانى والعشرين منه)».
وقال: «فى بداية القرن الـ١٧ وفى قوانين البابا غبريال الثامن قال (فمن صامه وفاء لنذر قطعه على نفسه فله ثوابه، ومن لم يصمه فلا جناح عليه)، وبذلك يكون الصوم اختياريًا ولكن لحب الشعب القبطى للسيدة العذاء جعله إجباريًا عليه، والبعض يتنسك فيه أكثر من الصوم الكبير».
6 مزارات شهيرة تحمل اسم «العذراء مريم» تحمل نفحات السيد المسيح
قال ماجد كامل، الباحث فى التاريخ الكنسى عضو اللجنة البابوية للتاريخ القبطى، إن كنيسة المعادى تُعد من أبرز المزارات المرتبطة بالسيدة العذراء، وورد ذكرها فى كتابات المؤرخ «أبوالمكارم» ضمن موسوعته الشهيرة عن تاريخ الكنائس والأديرة، مبينًا أنها خضعت لعدة عمليات ترميم، أبرزها فى عهد البابا كيرلس الخامس «١٨٧٤- ١٩٢٧»، ثم مرة أخرى فى عام ١٩٨٣.
وكشف «كامل» أن الهياكل الثلاثة للكنيسة تقع فى جزئها الشرقى، وتُزين جدرانها أيقونات تصور عددًا من القديسين، رسمها الفنان إبراهيم النقاش المعروف بلقب «الناسخ»، مضيفًا أنه تم ترميم النفق والسلالم التى تربط فناء الكنيسة بنهر النيل، فى إشارة إلى الأهمية التاريخية والروحية لهذا الموقع.
وأشار ماجد كامل أيضًا إلى كنيسة الزيتون، التى اكتسبت شهرة واسعة بعد ظهور السيدة العذراء فوق قبابها فى الثانى من أبريل عام ١٩٦٨. وعلى الرغم من أن الكنيسة تُعد حديثة نسبيًا، إذ يعود تاريخ إنشائها إلى عام ١٩٢٥، فإن هذا الحدث الاستثنائى منحها مكانة خاصة فى الوجدان الشعبى والدينى، وقد اعترفت الكنيسة القبطية رسميًا بهذه الظهورات فى الرابع من مايو عام ١٩٦٨.
وبيّن أنه فى عام ٢٠٠٠، وبمناسبة الاحتفال بمرور ألفى عام على مجىء العائلة المقدسة إلى أرض مصر، قام فريق عمل إيطالى بتنفيذ أعمال تنظيف وصيانة شاملة لصور الكنيسة وزيناتها، فى إطار الحفاظ على هذا الموقع الروحى والتاريخى المهم.
ولفت إلى أبرز المزارات الدينية فى صعيد مصر، وعلى رأسها منطقة جبل الطير بسمالوط، التى تُعد من المحطات المهمة فى رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر، وسُمّيت المنطقة بجبل الطير نظرًا لتجمع آلاف من طائر البوقيرس فيها، وهو طائر أبيض الريش يتميز بمنقار طويل بلون سن الفيل.
كما أشار إلى دير السيدة العذراء بجبل أسيوط، المعروف باسم «دير درنكة»، والذى يُعتبر المحطة الأخيرة فى رحلة العائلة المقدسة داخل مصر، ويحظى بمكانة خاصة لدى الزائرين والمهتمين بالتاريخ الروحى.
وفى دلتا مصر، تبرز كنيسة العذراء بسخا بمحافظة كفرالشيخ، حيث يُحتفظ بحجر يُعتقد أن قدم السيد المسيح قد طُبعت عليه، وذكر الأنبا جريجوريوس، أسقف البحث العلمى الراحل «١٩١٩- ٢٠٠١»، فى كتابه عن دير المحرق، أن هذا الحجر كان فى الأصل قاعدة لعمود، وأوقفت السيدة العذراء ابنها عليه، فغاص مشط قدمه فى الحجر.
وتابع أن الناس كانوا يأتون من بلاد بعيدة لوضع الزيت فى موضع القدم والتبرك به، وفى فترة من الفترات خشى الآباء على الحجر من الاعتداء، فأخفوه فى مكان مجهول، وأشار الدكتور جودت جبرة فى موسوعته عن الكنائس فى مصر إلى أن الحجر عُثر عليه أثناء أعمال حفر قرب الكنيسة فى أبريل ١٩٨٤، ويُعرض الآن داخل صندوق زجاجى يلمسه الزوار ويتبركون به.
واختتم بالإشارة إلى كنيسة مسطرد، التى يُقال إن السيدة العذراء حمّمت فيها الطفل يسوع، وقد ذكر الرحالة فانسليب أنه رأى داخل الكنيسة حجرين يحملان نقوشًا هيروغليفية، كما توجد بها صورة عجائبية للعذراء، مبينًا أنه قضى ليلة فى الكنيسة يوم ١٥ نوفمبر ١٦٦٤ لحضور القداس، وتم تدشين الكنيسة رسميًا فى ٨ بؤونة عام ٩٠١ للشهداء، الموافق ١٥ يونيو ١١٨٥ ميلاديًا.