فى عيد القديس مارمينا.. ذكريات وضع حجر أساس دير مار مينا بمريوط عام ١٩٥٩
27.11.2022 15:46
اخبار الكنيسه في مصر Church news in Egypt
وطنى
فى عيد القديس مارمينا.. ذكريات وضع حجر أساس دير مار مينا بمريوط عام ١٩٥٩
حجم الخط
وطنى

فى يوم الجمعة 26 يونيو 1959 بدأت أعيننا تتفتح على عصر جديد فى الكنيسة، ونوعية رائعة من الرعاة، وفكر كنسى مخلص فى الخدمة. ففى فجر هذا اليوم – نحو الرابعة صباحاً – أصطحبنى والدى الأستاذ بديع عبد الملك (1908 – 1979) قدس الله روحه وأنا أبلغ من العمر تسعة أعوام لزيارة منطقة القديس مينا الأثرية بمريوط فى الأتوبيس الخاص الذى أعدته جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية للصلاة مع البابا كيرلس السادس فى تلك المنطقة الرائعة الجمال التى سبق أن صلى بها آباء الكنيسة الأولين من القرن الرابع الميلادى حتى العاشر أبتداءً من البابا أثناسيوس البطريرك 20. كان قد مضى على رسامة البابا كيرلس السادس أسقفاً على الإسكندرية شهراً وستة عشر يوماً، وكان اليوم يوافق تذكار تكريس الكنيسة الأثرية بمريوط.

كان المشهد رائعاً من ناحية الجمال الروحى والعظمة الحقيقية للبابا العظيم. المكان كان صحراء جرداء، لكن أرواح القديسين وآباء الكنيسة الأولين تحيط بالمكان. عظمة المنطقة الأثرية سمعتها بأذنىّ من رجال الآثار المصرية الذين كانوا متواجدين معنا. كنت لأول مرة أرى البابا البطريرك، لكن عظمته الحقيقية – التى أستقرت فى ذهنى منذ ذلك الوقت وحتى وقت كتابة هذا المقال – هو بساطته الشديدة فى ملبسه وسلوكه وتعامله مع الكبير والصغير وأنخراطه الحقيقى فى الصلاة. وبعد أن أدى الصلاة فى نفس المكان الذى صلى فيه آباء الكنيسة من القرن الرابع وحتى العاشر، جلس على كرسى بسيط ليستقبل ويبارك جموع الحاضرين دون أن تبدو عليه مظاهر التعب والأرهاق وشدة حرارة مناخ الصحراء. ومنذ ذلك الوقت بدأنا نحن الأطفال الصغار نلتف بالحب حول البابا الجليل الذى أحتضننا جميعاً وشجعنا على حفظ وإتقان الألحان الكنسية غيابياً وباللغة القبطية دون الإستعانة بأى كتاب للصلاة. وكثيراً ما كان يردد على مسامعنا ملاحظاته لنا بعد الأنتهاء من الصلوات التى كنا نصليها معه سواء بالإسكندرية أو بدير مارمينا بمريوط وبعض الأحيان بالقاهرة.

كان دير مارمينا يكبر أمامنا فى مراحل نمونا – حجرة حجرة وكنيسة كنيسة، وكان يبدو لنا كأحد الأماكن المقدسة التى ورثناها عن البابا كيرلس السادس. كان جمال الكنيسة القبطية يزداد جمالاً وبريقاً أمام أعيننا وفى فكرنا، حتى أننا رأينا أساقفة وكهنة ذلك العصر متمثلين بأبيهم الروحى البابا كيرلس السادس فى البساطة وحب الخدمة من القلب والبعد عن المظاهر الكذابة والإنشغال بالصلاة والسعى بإخلاص نحو خدمة كل نفس بدون تمييز.

كانت فرحتنا تزداد عندما تعلن جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية تنظيم زيارة لدير مارمينا بمريوط فى شهرى يونيو (عيد تكريس الكنيسة) ونوفمبر (عيد إستشهاد القديس)، وكنا نقضى ليلة الزيارة ونحن شغوفين بتلك الزيارة وننتظر فجر الصباح حتى نتوجه لنستقل أتوبيسالجمعية من أمام الكنيسة المرقسية بالإسكندرية إلى دير مارمينا. وكثير من الأحيان كانت تمر بجوارنا السيارة البسيطة للبابا كيرلس السادس، وكان يعلم أن الأتوبيس الذى أمامه هو خاص بجمعية مارمينا، فكان يُخرج يده المباركة من شباك سيارته حاملاً الصليب ويباركنا، ونحن جميعاً – كبار مع صغار – نتطلع من نافذة الأتوبيس ونحن فى قمة الفرح والسعادة. وما أن نصل إلى الدير حتى نتوجه إلى البابا الجليل لنوال بركته ثم نشترك معه فى صلوات القداس الذى ينتهى فى نحو الساعة الواحدة بعد الظهر إذ كان بحق رجل صلاة.

أعتاد البابا كيرلس السادس أن يحضر إلى مقر كرسيه بالإسكندرية – لأنه أسقف الإسكندرية – وهى المدينة العُظمى التى تقدست شوارعها بدماء القديس مرقس، ويقيم بضعة أسابيع وأيضاً لمتابعة بناء الدير الحديث بمنطقة مريوط. لكن وجدنا أمراً جديداً فى كنيستنا – كما ذكر لنا آباءنا الأولين – أعتاد البابا كيرلس أن يتوجه إلى الكنيسة مبكراً يومياً – كعادة الآباء الرهبان – للصلاة. فكان يبدأ يومه نحو الخامسة صباحاً، وكانت والدتى تصحبنى أنا وأخوتى فى ذلك الوقت المبكر جداً ونحن أطفال صغار لنتوجه معها إلى الكنيسة المرقسية الكبرى بالإسكندرية للصلاة مع البابا العظيم. كان ظلام الليل مازال باقياً، ولم تكن وسائل المواصلات العامة قد بدأت بعد!! فكنا نسير فى ظلام الليل فى شوارع الإسكندرية نحو الكنيسة المرقسية (نحو نصف ساعة سيراً على الأقدام)، والشئ الجميل أن بقية الأمهات كن يفعلن بالمثل، وعند باب الكنيسة المرقسية كنا نتقابل مع العائلات المختلفة، ثم بداخل الكنيسة كنا نقف بجوار البابا للصلاة. وكم كانت فرحته الأبوية الحقيقية عندما يرى أطفالاً صغاراً يحضرون إلى الكنيسة مبكرين –وهم فى هذا السن – وكلهم حماس وحب وإشتياق حقيقى للصلاة. فكان يشجعنا. كانت الصلاة تنتهى نحو السابعة صباحاً. ثم فى حجرة الإستقبال البسيطة بالمقر البابوى بالإسكندرية (الذى تم إزالته نحو عام 1990) كان يجلس ويبارك كل واحد منا مع إبتسامة أبوية رائعة الوصف. ثم فى فترة المساء كان والدى يصطحبنى أنا وأخوتى إلى الكنيسة المرقسية للصلاة مع البابا كيرلس صلاة ما تُسمى صلاة “عشية” (أى صلاة عشية اليوم التالى). وبالمثل كان يفعل بقية الآباء مع أبنائهم. الشئ الغريب فى هذا الموضوع أن روح الصلاة هذه – التى يرأسها البابا كيرلس السادس – لم تكن موجودة من قبل ولا حتى من بعد. إذ كان البابا كيرلس السادس ملتزم بالمبدأ الرهبانى الألتصاق بالرب وقيادة الشعب لروح الصلاة الحقيقية.

أستمر هذا الوضع مع البابا كيرلس السادس حتى كان يوم الجمعة 27 نوفمبر 1959، عندما أعلنت جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية بإعداد أتوبيس خاص لأعضاء الجمعية للتوجه لمنطقة مريوط الأثرية لحضور صلاة القداس ووضع حجر أساس الدير الحديث للقديس مينا بمريوط. ومن الأمور المفرحة أنه قبل هذا الحدث ببضعة أسابيع وجدت أنا وأخوتى والدنا العظيم بالمنزل الأستاذ بديع عبد الملك يقوم بتسجيل ما سيتم كتابته على حجر أساس الدير على ورق “كلك” على أن يقوم مصنع الرخام بحفر تلك الكلمات على القطعة الرخامية. وعلمنا بعد ذلك أن هذا كان طلباً – بأبوة – من البابا كيرلس السادس، ومازالت القطعة الرخامية هذه موجودة بمعرض البابا كيرلس السادس بالدير – فى مواجهة المزار الخاص به – تشهد على روعة العمل. كانت فرحتنا لا توصف، وأستيقظنا مبكرين وتوجهنا إلى الدير، وبعد الصلاة مع البابا الجليل فى المنطقة الأثرية، التففنا حول البابا وسرنا معه جنوباً نحو ثلاثة كيلومترات حيث المنطقة المخصصة لبناء الدير الحديث – بعد مواقفة مصلحة الآثار المصرية.

أقام البابا كيرلس السادس صلاة شكر وتبريك يحيط به الآباء المطارنة والأساقفة والكهنة والشمامسة وأعضاء المجلس الملى السكندرى والشعب، ومن ذلك الوقت بدأ العمل فى إنشاء الدير تحت إشراف الأخوين شاروبيم وفرج إقلاديوس. وبعد إنتهاء اليوم عدنا إلى منازلنا فرحين ونحن مسبّحين وممجدين الله على كل تدابيره الصالحة معنا، وما رأيناه من أعمال الرب العظيمة فى قديسيه.

اترك تعليقا
تعليقات
Comments not found for this news.