القمص أنجيلوس جرجس يكتب: العائلة المقدسة في مصر.. أيام من تاريخنا
16.12.2018 10:15
Articles مقالات
البوابة نيوز
القمص أنجيلوس جرجس يكتب: العائلة المقدسة في مصر.. أيام من تاريخنا
حجم الخط
البوابة نيوز

بقلم القمص أنجيلوس جرجس

في تاريخ الشعوب أحداث لا يمكن أن تنسى مهما عبر الزمن، وكل شعب له ما يفتخر به ويتغنى به ويكون علامة فارقة في وجوده. ومصر في تاريخها أيامًا كثيرة لا تنسى، ولكن من أعظم هذه الأيام هي مجيء السيد المسيح والعائلة المقدسة إلى مصر. فقد كانت لهذه الزيارة قيمة كبيرة ومعنى عميق لأرضنا المحبوبة، فهي الاختيار الإلهي وسط كل العالم لكي تعيش العائلة المقدسة في أمان من بطش ملكًا شريرًا أراد أن يقتل السيد المسيح وهو طفلًا فظهر الملاك للقديس يوسف النجار وقال له: "قم وخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر" (متى 2: 13).

 

ونلاحظ في هروبه ليلًا يعني أن يد هيرودس الشرير كانت قريبة جدًا لقتل السيد المسيح. ثم يعود الكتاب المقدس ويقول مرة أخرى: "قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل" (متى 2: 20). وبين هاتين الآتين كانت مدة إقامته على أرضنا الحبيبة. ويبقى سؤالا هامًا يدور في أذهان كثيرين إن كان الكتاب المقدس قد ذكر هذا فقط عن مجيء السيد المسيح إلى مصر فمن أين نعرف المدة التي مكثوا فيها في مصر والأماكن التي زارتها العائلة المقدسة أو عاشت فيها؟

 

وسنرد على هذا في اتجاهين، الأول من خلال التقليد المسلم، والثاني بالوثائق. فمنذ أن وطئت أقدام العائلة المقدسة أرض مصر وكانت هناك ظواهر ومعجزات تحدث، ففي كل مكان كان ينبع بئر ماء، أو كانت تسقط أوثان معابد الرومان التي انتشرت في ربوع مصر في مدة ثلاثون عامًا أراد الرومان أن يفرضوا بأوثانهم عبادة جديدة وكان مجيء السيد المسيح إعلانًا لسقوط هذه الأوثان، وبداية لعمق روحي جديد دخل فيه المصريون استكمالًا للإشراق الروحي والحضاري الذي كان موروثًا من القدماء. وتلك المعجزات التي كانت تحدث على الدوام جعلت أهالي وعائلات الأماكن التي كانوا يمكثون فيها يتذكرون هذه الأحداث، فمن الطبيعي أن يتذكر كل منا الأحداث الخارقة التي نراها. ولم يمر أكثر من ثلاثون عامًا حتى انتشرت المسيحية ويخبرنا الكتاب المقدس أنه في عام 34 م. آمن يهود مصريون وبدأت الكرازة بالمسيحية تنتشر في كل ربوع مصر. وفي عام 1995م. اكتشفت في أسوان بعض الأوراق من مخطوط لإنجيل القديس متى يرجع تاريخه إلى عام 60 م. وهذا يعني أن الكرازة بالمسيح أصبحت منتشرة في كل ربوع مصر.

 

ونأتي إلى موضوعنا حينما كان يكرز بالمسيحية في مصر كانت العائلات التي عاصرت تلك الرحلة منها لا يزال موجودًا أو من سمع عما حدث من معجزات، بجانب الآثار التي كانت تحفظ تاريخ وجود العائلة المقدسة مثل المغارة التي في كنيسة أبي سرجة، وشجرة مريم في المطرية، والحجر الذي به آثار قدم السيد المسيح في سخا، والصخرة التي في جبل الطير بالمنيا المطبوع عليها كف السيد المسيح، وشجرة تسمى شجرة العابد لأنها انحنت أمام السيد المسيح في الأشمونين ملوي. والمغارة التي سكنتها في دير المحرق التي في القوصية بأسيوط.

 

وهذه الأماكن التي كانت تحفظ أثار المعجزات التي صنعها السيد المسيح تحفظها أيضًا العائلات التي تسكن فيها فحين انتشرت المسيحية صارت هذه الأماكن مقدسة وسكن حولها المسيحيون الأوائل ليتباركوا منها، بل صارت أماكن كثيرة كنائس في القرون الأولي مثل المغارة التي في كنيسة أبي سرجة التي قالت عنها المؤرخة الشهيرة مسز بوتشر: "أنها أصغر وأقدم كنيسة في الوجود".

 

وفي عصر الاضطهاد الروماني للمسيحية كان المسيحيون الأوائل يصلون في المغارات، ولكن بعد مرسوم التسامح للإمبراطور الروماني قسطنطين 313 م. بدأت الملكة هيلانة تبني كنائس في كل الأماكن التي عاش فيها السيد المسيح في أورشليم والجليل والناصرة، وحين انتهت أصدرت أمراُ أن تبني كنائس في كل الأماكن التي زارتها العائلة المقدسة في مصر. وبدأ الرومان في القرن الرابع ببناء هذه الكنائس مستعينة بالمسيحيين المصريين الذين كانوا يقدسون تلك الأماكن، ومما يؤكد هذا أننا نجد نبع المياه موجودًا في كل كنيسة بنيت في الأماكن التي زارتها العائلة المقدسة.

 

ونأتي إلى الوثائق فقد نشرت جامعة كولون بألمانيا بردية أثرية ترجع للقرن الرابع تتحدث عن فترة وجود العائلة المقدسة في مصر وتقول إنها استمرت ثلاث سنوات وأحد عشر شهرًا، وتصف مصر بأنها أعظم أرض في العالم وأن نيل مصر لن ينضب طول الدهر. وهذه البردية مكتوبة باللهجة القبطية الفيومية، طولها 31 سم وعرضها 8.4 سم.

 

أكد المؤرخ "سوزمين" في منتصف القرن الخامس الأماكن التي مكثت فيها العائلة المقدسة من تقليد سمعه هو شخصيًا من المسيحيون. ويقول العالم "جون ماسبيرو" أنه هناك مجموعة رسومات جدارية من القرن السادس كانت تزين كنيسة في دير القديس يحنس القصير في طره تحكي قصة هروب العائلة المقدسة إلى مصر. وفي القرن الخامس كان البابا ثاؤفيلس البابا الثالث والعشرون (385 412) يزور دير المحرق وكان ديرًا عامرًا وأراد أن يقوم بتوسيعات في المغارة التي عاشت فيها العائلة المقدسة فظهرت له السيدة العذراء وأخبرته بالا يفعل هذا لأن السيد المسيح كان يجلس وينام في هذا المكان، وأخبرته بالأماكن التي زارتها العائلة المقدسة وكانت متوافقة مع التقليد والتاريخ الذي كان يحفظه المصريون وبنيت فيه كنائس. هذا بجانب المخطوطات والأيقونات المنتشرة في العالم كله في القرون الوسطى.

 

ونعود إلى سير الرحلة فقد سارت العائلة المقدسة برياُ من بيت لحم إلى رفح حدود مائة كيلومتر، ثم أخذت فرع النيل الذي كان يطلق عليه في ذلك الحين البيلوزي. وكان في ترتيب القديس يوسف النجار أن يذهب إلى منطقة مصر القديمة حيث التجمع اليهودي الأشهر ليعيش وسط أقاربه في منطقة بابليون، ولكنه ما أن وصل إلى منطقة مسطرد حتى وجد أن هناك جنود خلفه فحول وجهته بدلًا من السير جنوبًا إلى بابليون وسار بدلًا منها إلى منطقة الدلتا. ونستنتج أنه كان هاربًا لأنه دخل صحراء وادي النطرون بعد دخوله الدلتا، ونستنتج أنه كان يريد أن يذهب إلى بابليون في البداية أنه عاد مرة أخرى لنفس النقطة ليمكث هناك. فإذا لم يكن هذا في حسابه منذ البداية لسلك الطريق إلى الصعيد عبر النيل ولم يدخل إلى بابليون التي مكث فيها ثلاثة أشهر ومنها ذهب إلى الصعيد ليمكث في دير المحرق ستة أشهر بعد رحلة طويلة ويعود بعد ما يقرب من أربعة سنوات مرة أخرى إلى وطنه.

 

ولكنه في هذه السنوات بارك مصر كلها وامتزجت مصر بالسيد المسيح فبالتأكيد أنه قد تعلم لغتها وصار واحدًا من أهلها يأكل ويشرب منها، لقد صار في تلك السنوات مواطنًا مصريًا ليحفر على جدران مصر اسمه وتاريخ وجوده الذي صار من تاريخنا أيضًا.

اترك تعليقا
تعليقات
Comments not found for this news.