بقلم القمص أنجيلوس جرجس
ولد القديس أنبا صموئيل عام 597م من أب كاهن بشبين الكوم، وحين بلغ سن الثانية عشرة ظهرت ملامح القداسة فقد كان يواظب على الصلوات ويصوم حتى الغروب. ورسم شماسًا بالكنيسة.
وبعد سنوات أراد أبواه أن يزوجاه فرفض وأخبرهما أنه يريد أن يصير راهبًا. وحين بلغ الثانية والعشرون وكان والده قد تنيح ذهب إلى دير أنبا مقار وترهب هناك وتتلمذ على يد قديس هو أنبا أغاثون، وبعد ثلاث سنوات رسموه قسًا.
وكانت مصر في هذا العصر تمر بحالة سيئة جدًا على مستوى السياسة والاضطهاد العقيدي، ففي عام 602م أرسل الإمبراطور فوكاس أوامره بالضغط على الشعب القبطي لكي يقبل بإيمان خلقيدونية الذي يفصل بين طبيعة المسيح من بعد الاتحاد حسب هرطقة نسطور وإن كانوا صاغوها بطريقة مخففة عنه ولكن في النهاية ليس الإيمان المسلم من الرسل والآباء القديسين، وقد اضطهد البابا والأساقفة والكهنة وأرسل جيشه واستولى على كنائس كثيرة وأعطاها للخلقيدونيين.
ثم استولى هرقل على عرش روما وفي هذه الأثناء استطاع الفرس أن يهزموا الرومان البيزنطيين في مصر ودخلوا إلى كل المدن والقرى يحرقوا ويهدموا الكنائس. وظلوا طيلة الست سنوات يحرقون الأديرة ويعذبون الأقباط بحثًا عن الأموال.
ثم استعاد هرقل مملكته من أيدي الفرس عام 628م وبدلًا من أن يجمع الشعب القبطي حوله أرسل منشور إيماني جديد وطلب أن يخضع الأقباط ويوافقوا على صيغة الإيمان المسيحي الذي أعلنه. ولكن رفضت الكنيسة والأقباط أي صيغة إيمانية تأتي من الإمبراطور وتمسكوا بإيمان الآباء فأحضر أسقف من بلاد القوقاز (البحر الأسود) اسمه كورش أو سيروس عام 631م ومنحه سلطة الحاكم العسكري والقضائي بجانب سلطته كبطريرك خلقيدوني على مصر.
وهو شخص اتسم بالشراسة والخيانة ومحبة المال وقد أراد أن يكسر الأقباط بالعنف ليقبلوا إيمان هرقل الخلقيدوني فسار في كل المدن والأديرة والكنائس ومعه منشور الإيمان الخلقيدوني ومعه جنود ومن لا يقبل أن يوقع على المنشور يعذب حتى الموت ويغتصب الأراضي والكنائس بعد ذلك.
ودخلوا على دير أنبا مقار وجمع الرهبان وقرأ عليهم وثيقة الإيمان الخلقيدوني وطلبوا منهم أن يوقعوا عليها فوقف أنبا صموئيل وسط أخواته الرهبان وقال لهم: "محروم مجمع خلقيدونية وكل من يؤمن به. يا آبائي لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد". وأخذ المنشور ومزقه. فأخذوه الجنود وضربوه بالسياط بكل وحشية حتى أن إحدى ضربات السياط دخلت في إحدى عينيه فقلعتها وتركوه بين ميت وحي فأخذوه ورموه خارج الدير.
فأتاه ملاك وأيقظه وشفاه وأمره أن يذهب إلى جبل القلمون فذهب إلى هناك وعاش وسط جماعة رهبانية.
وكانت مصر في ذلك الحين عرضة لقبائل البربر واللصوص نظرًا لضعف الدولة وعدم وجود قوة حقيقية تحمي البلاد. فأغار على الأديرة قبائل البربر التي كانت تأتي من الغرب وفي إحدى هذه الغارات أخذوه أسيرًا وقدموه إلى رئيس القبيلة.
وهناك وجد القديس يوحنا القصير أيضًا وطلب منهم زعيم القبيلة السجود للشمس فرفضوا، فأخذوه وعذبوه ثم ربطوه مع جارية وطلب منه أن يتزوجها كي ينجبوا أطفالًا للقبيلة.
وبعد فترة مرضت زوجة زعيم القبيلة وكان أنبا صموئيل قد اشتهر بأنه بصلاته يشفي أي مريض في القبيلة، فأشاروا على زعيم القبيلة بأن يحضر أنبا صموئيل ليصلي لزوجته المريضة. فأحضره وصلى لها فشفيت، ففك وثاقه وأكرمه.
وبعد فترة طلب منه أن يصلي لأجلها حتى تنجب، فصلى فأنجبت. فقال له: "اطلب أي شيء اصنعه لك" فطلب أن يعود هو وأخوته الرهبان إلى أديرتهم فوافق.
وحين رجع إلى ديره ظهرت له السيدة العذراء ومعها ملائكة وقالت لهم: "لن يعود البربر إلى الدير مرة أخرى من أجل شدائد أنبا صموئيل".
وظل يجاهد القديس حتى تنيح في هذا اليوم ليترك لنا أيقونة للإيمان مرسومة بدمه وآلامه ففي كل مرة نرى عينيه التي فقدت لأجل التمسك بالإيمان الذي لم يقبل أن يتنازل عنه نتمسك بالإيمان نفسه.
وقد كان هؤلاء الذين اضطهدوه وقلعوا عينه مسيحيون ولهم نفس الإنجيل وينادوا بالمسيح ولكن لهم إيمان مخالف للإيمان المسلم للكنيسة.
ونحن نرى هذه الأيام من ينادي بأن كلنا في المسيح وأن من يحمل الكتاب المقدس أي أن كان إيمانه يمكننا أن نقبله دون فحص الإيمان أو العقيدة. ولهؤلاء نقدم لهم أيقونة الأنبا صموئيل ودماء مئات الآلاف من الشهداء في ذلك الوقت الذين قدموا حياتهم حتى لا يوافقوا على إيمان مخالف ومشوه الملامح، وبهم حافظت الكنيسة على الإيمان وحافظ الآباء على الوديعة وسلموها لنا بلا تغير أو تشويه.
وفي حياة أنبا صموئيل أيضًا نرى قوة المسيحي الذي لا يخاف السلطان الأرضي ولم يخضع إلا للمسيح فقط فلم يخاف من سلطان أو جندي يحمل سلاح بل أعلن إيمانه بكل قوة وشجاعة.
وكان هذا لأنه عاش مجاهدًا شجاعًا في حياته الشخصية فمن يجاهد في الصلاة لأجل المسيح لا يخاف أي سلطة أرضية.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "الذين اختبروا سر الاتحاد بالمسيح يعيشون بطريقة ما مختلفة لأن الغير منظور صار منظورا لهم بل ومنظورا للآخرين بواسطتهم".
لهذا لم يخف أو يهتز القديس من أي سلطة أو تهديد وأعلن إيمانه ومسيحيته. وكما جاهد لأجل الإيمان جاهد أيضًا لأجل طهارته في الأسر ولم يخضع لتهديدات زعيم القبيلة ولم يتهاون في جسده بل جاهد، والفتاة التي ربطت معه جذبها للمسيح بقوة صلاته وقد كان سر قوته وجود المسيح فيه.
فالطهارة ليست في عدم فعل الخطية ولكن الطهارة في وجود المسيح في كل كيانه إذ يتحول الإنسان إلى هيكلًا للروح القدس والقلب عرشًا يسكن فيه المسيح.
والمحبة الحقيقة للمسيح هي أن يصير المسيح هو كل الحياة. ومن يحب يقدم المسيح لكل نفس حتى الأعداء كما فعل مع زعيم القبيلة، ولا يحتقر أحدًا بل يشابه سيده في احتضان الضعفاء والساقطين والخطاة.