قال القمص يوحنا نصيف راعي كنيسة السيدة العذراء مريم للأقباط الأرثوذكس بولاية شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية في تدوينة عبر حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، منذ قليل، إن هناك فارق شاسع بين من يعرف بعض المعلومات عن العقيدة الأرثوذكسيّة ومَن يستمتع بممارسة الحياة الأرثوذكسيّة بكلّ عمقها..!
فالعقيدة الأُرثوذكسيّة تُفهَم من خلال العبادة، وبدون الدخول في شركة العبادة ستكون الرؤية لكافة الممارسات مشوّشة أو غائبة تمامًا.
فمثلاً نحن في موسم الصوم الكبير، هل نحن نستمتع بتقديم ذبيحة الانقطاع عن الطعام والشراب، ونُغذِّي أرواحنا بالصلاة في القدّاسات المتأخِّرة والتناول من الأسرار المقدّسة؟ هل نحن نُشبِع قلوبنا وأفكارنا بالتسابيح وقراءة الكلمة الإلهية هل نحن نعيش التوبة ونراجع أنفسنا يوميًّا ونمارس سرّ الاعتراف بانتظام؟ هل نحن نتغذّى بصلوات المزامير وسماع عظات روحيّة مناسِبة لقراءات الصوم المقدّس..؟!
هذه ليست مجرّد طقوس يمكن الاستغناء عنها.. هذه هي الحياة الأرثوذكسيّة التي بدونها سنعيش فقراء في الإيمان والحُبّ، بل وسيأتي تقييمنا للممارسات الروحيّة من أصوام وصلوات خاطئًا بكلّ تأكيد..
انّ وضع الإنسان هو الذي يمنحه زاوية الرؤية.. فإذا كان الإنسان مُصِرًّا على الوقوف خارجًا فبالتأكيد لن يرى شيئًا من كنوز الداخل، وبالتالي لن يستمتع بها، ويكون من الطبيعي أن نجده لا يُقَدِّرها.. أمّا إذا كان يقف في الداخل فزاوية الرؤية بالتأكيد ستتغيّر، ومع المشاركة والمُمارَسَة سيُضاف لرؤيته التهاب مشاعر القلب بالحُبّ، وتفاعُل الجسد بالسجود والخشوع والدموع.. هنا يظهر الفارق الشاسع بين المؤمن غير المُمارِس والمؤمن المُمارِس..
لنأخُذ مثالاً عمليًّا بسيطًا: في يوم الجمعة العظيمة، تستغرق الصلوات في الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة حوالي عشر ساعات.. هناك من أعضاء الكنيسة مَن يحضر ساعة أو اثنين على الأكثر في نهاية اليوم، وهذا هو النموذج الذي أعتبِرُه يقف خارجًا، فهو فقط يقف متفرِّجًا، يتعجّب أو يتأسّف أو يحتقر الذين يحضرون مبكِّرين ليصلّوا كلّ هذه الصلوات، ويعتبرهم بؤساء ومساكين.. كيف يحتملون كلّ هذا العذاب؟!
في حين أنّ الذين بالداخل يكونون أسعد ناس على وجه الأرض؛ فمنهم مّن يحضرون قبل بداية الصلوات بفرح وشغف، ويستمتعون بالقراءات والتسابيح والميطانيات في نهاية كلّ ساعة، ويسكبون أنفسهم بكلّ خشوع وتوبة وفرح أمام المسيح المصلوب لأجلهم، وفي أحيانٍ كثيرة لا يستطيعون ضبط دموعهم مِن تأثُّرهم بحبّ فاديهم، ويودُّون ألاّ يمرّ الوقت أبدًا.. ومع نهاية اليوم في الخامسة أو السادسة مساء يتذكّرون أنّهم لم يأكلوا أو يشربوا شيئًا طوال اليوم.. ولكنّهم مع الإرهاق الجسدي يشعرون بشبع وفرح روحي لا مثيل له، ويتمنّون لو أنّ كلّ أيّام حياتهم مثل هذا اليوم..!
من هذا المثال وغيره، نفهم أنّ الممارسة هي مُتعة الحياة الأرثوذكسيّة.. ممارسة التلمذة لأب الاعتراف.. ممارسة صداقة القدّيسين.. ممارسة الاشتراك في التسبحة والقدّاسات.. ممارسة الأصوام والاحتفال الروحي بالأعياد.. ممارسة صلوات المزامير بالميطانيات..
بدون الممارسة يعيش الإنسان غريبًا عن أُرثوذكسيّته لا يفهمها في عمقها، فيفتقر إلى رؤية المسيح في الكنيسة، ويصير إحساسه بأيّ طقس شبه معدوم.. وبالتالي قد ينزلق إلى التهكّم والتطاول والاحتقار لترتيبات الكنيسة..!
الحياة الروحيّة الحقيقيّة هي ممارسة حُبّ وتفاعُل حيّ في العبادة قبل كلّ شيء. والعقيدة الأُرثوذكسيّة ليست هي مجرّد ترديد لقانون الإيمان وبعض الصلوات، ولكنّها حياة غنيّة جدًّا نعيشها بكلّ أبعادها، ونستمتع بعِشرة المسيح من خلالها.