عرض كتاب "التاريخ الطقسى لسرّ التوبة والاعتراف للراهب القس اثناسيوس المقارى
كمال زاخر
2 ـ صدمة المقدمة : التحول من التوبة إلى الحِل !!
بين الطبعة الأولى للكتاب، 2007، والطبعة الثانية، 2013، نحو خمس سنوات، دفعت الكاتب للمبادرة فى مقدمة الطبعة الثانية بوضع القارئ أمام حقائق صادمة، بعد أن قدم كتابه فى طبعته الأولى بأنه "كتاب فى سر التوبة والاعتراف"، "يحكى تاريخ التوبة فى حياة الكنيسة"، و"المراحل الليتورجية التى عَبَرَ عليها الاعتراف"، وأوضح أن الاعتراف انتقل من حالة العلنية إلى حالة الاعتراف السرى على الكاهن "باعتبار أن الكاهن ممثلاً للجماعة ونائباً عنها"، وفى الحالتين "العلنى والسرى" فإن الهدف الأساسى يبقى "عودة الخاطئ التائب إلى شركة الجماعة، وإلى حضن الكنيسة."
فبعد أن إقترب الكاتب فى مقدمة الطبعة الأولى من واقع ممارسة سر التوبة والاعتراف، ونبه إلى "أن القداس الإلهى ليس هو وقت الاعتراف بالخطايا، لأن الكنيسة كلها الآن فى حالة صلاة وشكر وتسبيح، مع مخافة، من جرَّاء حضور الله بين شعبه. ومن ثم فمن نافلة القول أن يطلب أحد المصلين من الأب الكاهن أثناء صلوات القداس الإلهى أن يصلى له التحليل."
يتابع الكاتب رصد هذا الواقع وردود فعل القراء فيجد نفسه بحاجة إلى مواجهة ما استقر عند كثيرين فى الممارسة الحياتية الكنسية، بالمخالفة لما تُعلِّم به الكنيسة، ويُضمِّنه مقدمة الطبعة الثانية، التى تأتى محمَّلة بحقائق صادمة، إذ كشف عن أن "التطور التاريخى المعقد لسر التوبة، قد أثر على كثير من المفاهيم المسيحية الأساسية حول الخطية والتوبة والمصالحة مع الله، وتجديد الحياة"، وأن معناها قد اختلف كثيراً عن المعنى الذى بنى عليه إيماننا المسيحى برمته".
وهذه الملاحظة جد خطيرة، لأن الكاتب يضعنا أمام تحول جوهرى، قبل به كل الأطراف بما فيهم الآباء بدرجاتهم ورتبهم المختلفة، وانعكس هذا على الحياة الكنسية المعاشة، والكاتب يقدم دفوعه التى تنتهى إلى تأكيد ما انتهى إليه؛ فيقول "فُهم سر التوبة فى أصوله الأولى، على أنه مصالحة للمقطوعين المطرودين من الكنيسة، لكى يعودوا إلى شركة الجماعة، والاشتراك فى جسد المسيح ودمه، وكانت هذه المصالحة عملية طويلة، والحِل هو ختامها". "أما اليوم ـ يقول الكاتب ـ فتحول مفهوم التوبة كسر للمقطوعين من الكنيسة، إلى سر للذين فى الكنيسة. ومن ثم تحول التركيز اللاهوتى، من التوبة إلى الحِل، وكأنه ـ أى الحِل ـ عملياً العنصر الأساسى الجوهرى الوحيد فى السِّر".
يستطرد الكاتب فى أسى "إن الاعتراف هو أحد أوجه الرعاية الأكثر صعوبة لأى كاهن حىِّ الضمير، لأنه يتواجه فى هذه اللحظات مع القصد الوحيد الحقيقى لرعايته، أى خلاص الإنسان الواقف فى حضرة الله، بإحساس الخاطئ والبائس. هذا من جهة، ومن حهة أخرى، يدرك الكاهن أيضاً فى هذه اللحظات مقدار تغلغل المسيحية الإسمية فى حياة الكنيسة."
ويعود الكاتب إلى جوهر الأزمة فى فهمنا لـ "سُلطة الحِل"، مقارنة بما تعنيه عند الكنيسة "إن فكرة سُلطة الحل، وكأنها “قوة بذاتها” مستقلة عن عملية التوبة، لم تكن قائمة. ولكنها كانت الرمز السرائرى لتوبة مقبولة، أتت إلى ثمارها. لذا كانت الكنيسة ـ فى شخص الكاهن ـ تشهد على توبة حقيقية، وأن الله قبلها، وصالح التائب، واتحده مع الكنيسة".
ثم ينتقل الكاتب إلى مفهوم الخطيئة، وما صار إليه، فيقول "وأما عن مفهوم الخطية، كانفصال عن الله، وعن الحياة الحقيقية الوحيدة، فيه ومعه، وانحراف عن المحبة، فقد حل محلها تدريجياً نوع من القانونية الأخلاقية أو الطقسية، حيث صارت الخطيئة تعنى بالدرجة الأولى انتهاك أحد القوانين القائمة، والتى تحولت إلى مجموعة قواعد أخلاقية مقبولة اجتماعياً. فتحول السِّر إلى”فرض دينى” لمناقشة مشاكل المرء، لا خطاياه، وهذه المشاكل فى أغلب الأحيان، لا حِل لها، لأن الحِل الوحيد هو التحول إلى المسيحية الحقيقية."
تأسيساً على ما تقدم يتعرض الكاتب لتداخل الإرشاد الروحى أو اقتحامه لسر التوبة والاعتراف، فيقول "منذ البداية لم يكن الإرشاد الروحى محسوباً ضمن سر الاعتراف، ولكن تحت تأثير الرهبنة، ونظريتها وممارستها الشديدة التطور فى هذا المجال، صار الإرشاد الروحى جزءاً اساسياً من الاعتراف، وبرغم ذلك، بقى هذا الإرشاد فى الرهبنة ذاتها متميزاً عن الاعتراف السرائرى."
ولا يكتفى الكاتب بالوقوف عند ملاحظاته الدقيقة والكاشفة، بل يقدم فى ختام مقدمته تصور موضوعى لما يجب أن تكون عليه ممارسة سر التوبة والاعتراف، فى سطور قليلة؛ "يتألف سر الاعتراف اليوم من صلوات قبل الاعتراف ونصائح للتائبين، ثم الاعتراف، ثم الحِل. ويجب عدم الغاء صلوات ما قبل الاعتراف، لكى يتجاوز الاعتراف مستوى الحوار الإنسانى. وأما التوجيهات فتكون دعوة إلى التوبة الحقيقية. وينصح بتقسيم الاعتراف إلى ثلاثة أقسام : ما يختص بالعلاقة مع الله نفسه، وما يختص بالعلاقة مع الناس، وما يختص بالعلاقة مع النفس. وهنا فقط يأتى الحِل، كتتممة لكل هذا."
ويختتم الكاتب سطوره بقوله الجازم "ولكن أن نفكر بالحِل وكأنه محض (سُلطة) شرعية وفعالة لحظة أن يتلفظ بها الكاهن، فهو انحراف عن الأرثوذكسية، نحو أسرار سحرية أو قانونية، مرفوضة بالكامل من روح الكنيسة الأرثوذكسية وتقليدها."