
وصلت الدكتورة سهير نظمى عبدالرحمن، الرئيس الأسبق لقسم «بحوث تكنولوجيا المحاصيل» فى «معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية» التابع لـ«مركز البحوث الزراعية» بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضى، إلى طريقة مبتكرة يُمكن من خلالها تحقيق اكتفاء ذاتى فى سلعتين استراتيجيتين هما: رغيف الخبز وزيت الطعام الصحى.
الابتكار الجديد يعتمد على الاستفادة من «ردة الأرز» أو ما يُعرف بـ«رجيع الكون»، وهو الطبقة الخارجية من حبة الأرز التى تُستخرج بعد ضرب الأرز الشعير فى المضارب، وتُعد غنية بالعناصر الغذائية والزيوت الطبيعية، لكنها تُستخدم فى مصر كعلف حيوانى غالبًا، رغم قيمتها العالية.
وقالت الدكتورة سهير نظمى، التى تشغل حاليًا منصب «رئيس بحوث» فى «معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية»، إن إنتاج مصر من الأرز فى عام ٢٠٢٤ بلغ نحو ٦.٢ مليون طن من الأرز الشعير، وتُشكل «ردة الأرز» نحو ١٠٪ من وزن الحبة، أى ما يعادل ٦٢٠ ألف طن من «رجيع الكون» سنويًا.
وأضافت الباحثة: «تحتوى هذه الكمية على نسبة زيت تتراوح بين ١٥٪ و٢٠٪، ما يعنى إمكانية إنتاج ٩٠ إلى ١٢٤ ألف طن من زيت الطعام عالى الجودة، وهو ما يعرف بـ(زيت القلب) أو (Heart Oil)، نظرًا لفوائده الصحية الكبيرة، خاصة فى خفض الكوليسترول الضار وعلاج تصلب الشرايين».
وفيما يتعلق باستخدام «رجيع الكون» فى إنتاج القمح، قالت د. «سهير» إن «رجيع الكون» يمكن أن يُستخدم كبديل ممتاز للقمح فى صناعة الخبز البلدى والمخبوزات الأخرى، مضيفة: «باحتساب الكمية المُتاحة منه سنويًا، يمكن أن يوفر ما يعادل نصف مليون طن من القمح المستورد، وهو ما يخفف العبء عن ميزانية الدولة التى تستورد قرابة ٥٠٪ من احتياجاتها من القمح لإنتاج الخبز المدعوم، فضلًا عن أن (ردة الأرز) لا تحتاج إلى طحن، وتسهم فى رفع القيمة الغذائية لرغيف الخبز، بفضل احتوائها على البروتينات والفيتامينات والأملاح المعدنية والألياف والأوميجا ٣ و٦».
لكن التحدى الرئيسى، وفق الباحثة، يكمن فى أن «ردة الأرز» تحتوى على إنزيم «الليبيز»، الذى يبدأ فى التحلل مباشرة بعد فصل الردة عن الحبة، ما يؤدى إلى ارتفاع الرقم الحامضى، وزيادة نسبة الأحماض الدهنية الحرة، وبالتالى فساد الزيت وتدهور جودته بسرعة، الأمر الذى يجعل استخدامه الغذائى غير آمن، ويضطر التجار معه إلى بيعه كعلف بسعر زهيد لا يتجاوز ٧٠٠٠ جنيه للطن.
وأضافت الباحثة: «فى معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية، بالتعاون مع كلية الزراعة جامعة القاهرة، أجرينا تجارب عديدة باستخدام طرق غير مكلفة لتثبيط نشاط إنزيم الليبيز، وحققنا نتائج مبهرة».
وتستند النتائج إلى رسائل علمية مُحكمة، منها رسالة ماجستير بعنوان «دراسات كيميائية حيوية على رجيع الكون لإنتاج الزيت الصالح للاستهلاك»، ورسالة دكتوراه بعنوان «دراسات كيميائية وحيوية على رجيع الكون»، إلى جانب عدد كبير من الأبحاث المنشورة محليًا ودوليًا.
وتمكّن الفريق البحثى من تخزين «ردة الأرز» بعد المعالجة لفترات تتراوح بين ٦ أشهر وعام، دون تأثر جودة الزيت. كما تم استخدام «رجيع الكون» منزوع الزيت فى صناعة العديد من المنتجات الغذائية، مثل الخبز البلدى والبسكويت و«الكوكيز» والمخبوزات الصحية، وحققت تلك المنتجات جودة عالية ومذاقًا مقبولًا لدى لجان التقييم فى المعهد.
أما زيت «ردة الأرز» فيتميز بقدرته على تحمل درجات الحرارة العالية حتى ٢٣٢ درجة مئوية «٤٥٠ فهرنهايت»، ما يجعله مثاليًا للطهى، خاصة فى عمليات القلى السريع والقلى العميق، وفق الدكتورة «سهير»، التى أضافت: «زيت ردة الأرز يُستخدم على نطاق واسع فى دول آسيا، مثل اليابان والصين والهند وبنجلاديش، ويُعرف هناك بـ(زيت القلب)، نظرًا لفوائده الصحية الكبيرة، وقيمته الغذائية المرتفعة».
وشددت الباحثة على أن استغلال «ردة الأرز» بالصورة الأمثل يمكن أن يسهم فى سد فجوة غذائية مزدوجة تعانى منها مصر، فى القمح والزيت، مضيفة: «إذا استخدمنا (ردة الأرز) فى إنتاج رغيف الخبز، سنوفر ما يعادل نصف مليون طن من القمح، ونحقق اكتفاءً ذاتيًا من الزيت لمدة لا تقل عن شهر ونصف الشهر، فضلًا عن القيمة الغذائية العالية لرغيف الخبز المحضّر باستخدامها».
ورغم وضوح الفكرة وبساطة التنفيذ وانخفاض التكلفة، ما زالت «ردة الأرز» تُعامل كفضلات زراعية، فى ظل غياب منظومة للاستفادة منها على المستوى الصناعى والغذائى والطبى، وفق الباحثة، والتى شددت على أن «ما نحتاجه الآن هو إرادة تنفيذية، واستثمار حكومى أو خاص فى إنشاء خطوط إنتاج صغيرة لمعالجة ردة الأرز وتثبيط الإنزيم، وتحويلها إلى خبز وزيت ومخبوزات.. حينها سنحقق نقلة كبيرة نحو الأمن الغذائى الحقيقى».