
الغطاس أو عيد الظهور الإلهي، تذكار معمودية السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن، الذي يلا يزال المسيحيون يحتفلون به في أنحاء العالم كافة، ولكن دائما لأقباط مصر بصمتهم المميزة؛ إذ مع اقتراب الغطاس يكثر باعة قصب السكر، ويقبل السيدات على شراء القلقاس، وتعمر البيوت بفواكه الشتاء يوسفي وبرتقال، وهي عادات قد يقاسمها المصريون جميعا كموسم شعبي، وهو ما كان يحدث قبل مئات السنين، حيث كان المسلمون قديما يحتفلون به أيضا على طريقتهم الخاصة.
المسعودي عن الغطاس: أحسن ليالي مصر
أحسن ليالي مصر.. هكذا وصف المؤرخ والجغرافي العربي أبو الحسن المسعودي 896 - 957م عيد الغطاس، في كتابه مروج الذهب، قائلا: وليلة الغطاس في مصر شأن عظيم عند أهلها، لا ينام الناس فيها، وهي ليلة إحدى عشرة تمضي من طوبة وستة من كانون الثاني، وقد حضر النيل في تلك الليلة مئة ألف من الناس من المسلمين والنصارى، منهم في الزوارق، ومنهم في الدور الدانية من النيل، ومنهم على الشطوط، لا يتناكدون الحضور، ويحضرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب والملابس، وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف والقصف، مؤكدا أنها أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها ذلك أمان من المرض ومبرئ للداء.
ويضيف المسعودي في كتابه: ولقد حضرت ليلة ثلاثين وثلثمائة ليلة الغطاس بمصر، والأخشيد محمد بن طغج في داره المعروفة بالمختارة في الجزيرة الراكبة للنيل، والنيل يطيف بها وقد أمر فأسرج من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل، غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وهي إشارة لتحضيرات الأخشيد محمد بن طغج، مؤسس الدولة الأخشيدية، تدل على اهتمام الدولة بالعيد، ومشاركة الحاكم والمسلمون في الاحتفال معا، ما يجعلها أحسن ليالي مصر.
المقريزي: المصريون احتلفوا بالعيد بالتغطيس في النيل
وفي التاريخ، يعد المؤرخ تقي الدين المقريزي، من أكثر المؤرخين حديثا عن الغطاس؛ إذ ورد في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، والمعروف بـالخطط المقريزية، أن المسبحي قال في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة: كان غطاس النصارى، فضربت الخيام والمضارب، والأشرعة في عدة مواضع على شاطئ النيل، فنصب أسرة للرئيس فهد ابن إبراهيم النصراني، كاتب الأستاذ برجوان، وأوقدت له الشموع والمشاعل، وحضر المغنون، والملهون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس وانصرف، في إشارة إلى أنه كان من عادات المصريين الاحتفال بالعيد، من خلال التغطيس في النيل.
واتفق المقريزي والمسعودي في وصف مشاركة الحاكم للمسيحيين بالاحتفال، فيقول الأول: في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس في شراء الفواكه، والضأن وغيره، ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم لقصر جده العزيز بالله بمصر، لنظر الغطاس، ومعه الحرم، ونودي أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم إلى البحر في الليل.
وكان يحضره الجميع من رهبان وقسوس أيضا؛ إذ يقول المقريزي: وضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولي الشرطتين خيمة عند الجسر، وجلس فيها، وأمر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بأن توقد المشاعل والنار في الليل، فكان وقيدا كثيرا، وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان، والنيران، فقسسوا هناك طويلا إلى أن غطسوا.
ابن المأمون: الدولة كانت توزع أكلات الغطاس
وهناك جانب آخر أبرزه ابن المأمون في تأريخه لعيد الغطاس، مشيرا إلى أن الدولة نفسها كانت توزع أكلات الغطاس على جميع الشعب؛ إذ يقول: كان من رسوم الدولة أنه يفرق على سائر أهل الدولة الترنج والنارنج والليمون المراكبي، وأطنان القصب، والسمك والبوري برسوم مقررة لكل واحد من أرباب السيوف الأقلام، وظلت هذه الطقوس قائمة حتى قامت دولة المماليك الشراكسة، الذين أبطلوا كل هذه الاحتفالات.