تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اليوم السابع عشر من شهر برمهات المبارك؛ بعيد استشهاد القديس سيدهم بشاي بدمياط سنة 1565 ش الموافق عام 1844م. فقد احتمل هذا القديس التعذيب على اسم السيد المسيح حتى الموت، وكان استشهاده سببا في رفع الصليب علناً حيث كان محرماً رفع علامة ” الصليب ” في ذلك الوقت.
حيث كانت دمياط في هذه الأيام مدينة كبيرة تعد ثاني بلد بالإقليم المصري بعد القاهرة؛ ولكن كان جو دمياط الإجتماعي سيئاً منذ بداية عصر “محمد على” حيث كانت منفى لكثيرين من السياسيين وسجناً للجنود الألبانيين وغيرهم . وكانوا يسيئون معاملة الأقباط ظناً منهم أن لهم صلة بالصليبيين، فكان أجدادنا الأقباط يعيشون فى إضطهاد صعب فى هذه الفترة وقد كانت هناك حوادث عديدة من إضطهاد وتنكيل وإجبار على ترك المسيح لكثير من الناس قبل قديسنا مار سيدهم بشاى.
كان القديس مارسيدهم بيشاى هاجر إلى الإسكندرية ولم يحضر إلى دمياط كثيراً فكان يعمل بالأخشاب وكان يأتى إلى دمياط لاستلام الأخشاب فيقضى بعض الوقت بالثغر بمنية دمياط نازلاً عند أخيه وقد يطول الوقت منتظراً فيه قدوم الأخشاب. وطوال الفترة كان شغله الشاغل هو خدمة الكنيسة القبطية بدمياط وكان يذهب إليها ماشياً على الأقدام.
وفى يوم 21 مارس كان ماراً بطريق الكنيسة التي كانت مدافن الأقباط في ذلك الوقت وكانت مسورة بسور كبير وكانت الكنيسة صغيرة لا تزيد عن قاعة متوسطة الحجم وكان الأقباط حينما يذهبون إلى الصلاة يذهبون فى حذر وتخفى من شدة الإضطهاد، وكانوا يقولون بعضهم للبعض الآخر : ” أنا ذاهب للسور “.
أما القديس مارسيدهم بيشاى فكان يذهب بشجاعة إلى الكنيسة مرات عديدة، مما أثار عليه حنق بعض الأشرار فدبروا طريقة لمنعه. وبينما هو سائر فى طريقه بحارة الكنيسة إحتك به أحد الأشخاص غير المسحيين وطفق يمنعه من المسير إلى الكنيسة لكن القديس مارسيدهم بيشاى لم يعبأ به ولم يلتفت إلى أمره، مما أثار سخط هذا الشرير، فهاج وثار بالشتائم الردية حتى تجمهر حوله بعض الغوغاء والصبية… وتصادف مرور مفتى البلدة فسألهم عن السبب، فأخبروهم كذباً بالأمر مدعين على القديس مارسيدهم بيشاى زوراً ووجهوا إليه أتهامات باطلة أنه تهكم وسب الدين الإسلامى فجعل المفتى يستشيط غضباً وغيظاً وصرخ قائلاً : ” كيف تقولون أن الرجل النصرانى إستخف بالإسلام والمسلمين وتطاول على نبيهم المرسل ؟!! “.
أخذ المفتى من تلك الزمرة شهود زور وتوجهوا إلى المحكمة وبواسطتهما أثبتوا الإدعاءات الكاذبة على القديس مارسيدهم بيشاى، وقد أمرت المحكمة بإحضاره من الكنيسة فمروا به على شارع السوق، وفى أثناء مروره بالطريق كان يُضرب ويُهان من كل من صادفه فى الطريق وعندما يعلمون أمره كان ينهلون عليه بالضرب بالجريد على ظهره وعلى رجليه ونتفوا نصف لحيته ونصف شاربه بقصد الأستهزاء به وظلوا فى إضطهادهم له حتى مَثَل أمام القاضى الذى لم ينتهرهم ليسكتوا.
وتصادف مرور أحد أصدقائه وهو المعلم بانوب فرح إبراهيم وكان رجلاً شهماً ذا مكانة مرموقة بالبلدة فتدخل آملاً إنقاذ صديقه حيث قال للجمع : ” أما كفاكم ضربه أفتجرونه أيضاً على وجهه !! “، فحالاً ألتصقوا به أيضاً ولم ينج من أذاهم إذ قامت الجموع عليه وأوسعوه ضرباً بالجريد على رأسه كونه تكلم بهذا الكلام, وتذكر المخطوطة أنه كان ما يزال مريضاً من الضرب والرعب ولم تمض أيام على حالته هذه إلا وتنيح وقد وجد جسده مدفوناً أسفل جسد القديس مارسيدهم بيشاى.
أحضروا القديس أمام القاضى وبعد الضرب والتهديد ظنوا أنه سوف يترك المسيح لكنه ثبت فى إيمانه، فأصدر القاضى هذا الحكم : ” من حيث أن المدعو سيدهم سب الدين الإسلامى وتطاول على حضرة النبى فقد حكمت المحكمة إما بدخوله الإسلام فيُشفع له أو قتله فوراً. ولكن القديس محب الإله تعجب من طلبهم ولم يجب إلا بالرفض حينئذ خلع الحاضرون أحذيتهم وضربوه على وجهه حتى سال منه الدم.
وفى اليوم التالى أحضروا القديس سيدهم من السجن مقيداً بالضرب والإهانة طوال الطريق حتى أوصلوه دار المحافظة، فلما رأى المحافظ شدة تمسكه وإيمانه ورفضه لمشوراتهم حكم عليه بما حكم القاضى سابقاً فجروه على وجهه من أعالى سلالم المحافظة إلى أسفل حتى تشوه وجهه وصار القضاء عليه أمام محفل الجمع أن يُضرب خمسمائة كرباج فى ميدان المحافظة حتى غاب عن الوعى، فطرحوه على الأرض ومضوا، ثم لما أستفاق أعادوا الكرة عليه حيث جروه فى شوارع المدينة ثم لما وجدوه قد أعى من التعذيب طرحوه فى وكالة الأحباش الخربة ومضوا وتركوه فى نزاع الموت.
وفى اليوم التالى أعادوا الكَرَة عليه حيث عروه من ثيابه بقصد الأستهزاء ومروا به فى شوارع البلدة ولطخوا جسده بالأوحال وأركبوه على جاموسة بالمقلوب وعلقوا على لحيته صليباً لوثوه بالقاذورات، وصاروا يزفونه فى كل البلدة كأنه للذبح !! وكانت البلدة أشبه بمسرح للطائشين. ولم يكفوا عن الضرب بالعصى والسياط والأحذية حتى برز لحمه من عظمه والقديس فى كل ذلك صابر غير متذمر لا ينطق بشئ سوى أنه كان يصلى قائلاً : ” يا يسوع… يا طاهرة (وكان يقصد بها السيدة العذراء)”.
أخيراً ساقوا القديس متوجهين ناحية منية دمياط حيث منزل أخيه فى منية دمياط، وطرحوه أمام منزل أخيه متجمهرين عند الباب، وبقي القديس مطروحاً على الباب مقدار ساعتين حيث تقدم أحد هؤلاء الرعاع لما رأى القديس فيه نسمة الحياة أحضر قطران فى القدر من على النار ورشه فى وجه القديس وأمام هذه الأتعاب الكثيرة التى لا يقدر على تحملها بشر تجلت السيدة العذراء أمام عينى القديس فى صورة نورانية.
بعد هذه الآلام المروعة التى كابدها قديسنا والتى أستمرت نحو أربعة أيام أسلم روحه الطاهرة بيد الرب الذى أحبه وكان هذا ساعة ظهور السيدة العذراء أمامه وقت إستشهاده، فحملوا جسده الطاهر إلى منزل أخيه.
وحدث بعد هذا الشعب الكبير فى المدينة إن أتصل قناصل الدول المقيمين بالثغر بالأسطول الإنجليزى المرابط بشواطئ البلاد منتهزاً أية فرصة للتدخل. فانتهزت هذه الدول فرصة سانحة وأرسلوا باخرتين حربيتين إلى ثغر دمياط، لكن الخديوي أسرع وأرسل مندوباً رسمياً للتحقيق وهدأ خواطر القناصل وقد أسفر التحقيق على إدانة المحافظ والقاضى وتجريدهم من مناصبهم كي يعود السلام إلى المدينة.
وأراد الخديوى تهدئة النفوس فأمر بتكريم الشهيد سيدهم فى كل أنحاء البلدة وتشييع جنازته رسمياً، وأصدر أمره برفع الأعلام والصلبان فى جنازته. وقام بالاحتفال جميع الطوائف وسار الموكب فى حراسة جمع غفير من الجنود، ولبس الكهنة ملابسهم الكهنوتية وطافوا فى كل البلدة مع لفيف من الشمامسة حتى وصلوا به إلى الكنيسة حيث أتموا مراسيم الصلاة ودفنوه بأرض كنيسة وقد شوهد عموداً من نور يسطع فوق مقبرته وقد حضر كثيرون وكانوا يأخذون من تراب القبر ويشفون من أمراضهم بصلاته.
كانت هذه الحادثة سبباً فى رفع الصليب جهاراً كما رفع فوق قباب الكنائس فى كل مكان وفى جنازات المسيحيين وفى المناسبات الدينية وليس فى دمياط وحدها بل على مستوى الكنيسة كلها.
ظل جسد القديس كما هو لم يتحلل إلى وقتنا هذا فجسده متماسكاً تماماً ولم يفقد شيئاً لدرجة إمكانية إيقافه على قدميه وكان لونه مثل لون البشرة العادية عدا ما تهشم من وجهه نتيجة السحل على الأرض أثناء تعذيبه وقبل نياحته.
صلاته تكون معنا ولربنا المجد دائماً أبدياً آمين.
تذكار استشهاد القديس سيدهم بيشاى
وطنى
وطنى
اترك تعليقا
تعليقات
Comments not found for this news.