داخل ساحة كنيسة الأمير تواضروس بمحافظة المنيا، كان القساوسة يتلون الترانيم في الصلوات، يرددون الألحان، وأمامهم ستة جثامين محفوظة في صناديق خشبية، بيضاء اللون، ملصوق على مقدمتها ورقة مكتوب عليها اسم صاحب الجثمان، فيما يحتل أهالي الضحايا الصفوف الأولى، بعيون حمراء ذابلة، ووجوه حزينة، تصدر من حين لآخر آهات مسموعة، يعلو صوت سيدة بالصراخ، أو يشتد بكاء عجوز، بينما يشرد باسم رضا طويلًا، كأن حادثة استهداف 6 من أسرته على طريق دير المنيا شريطًا سينمائيًا يعرض أمامه، ولا مناص عن النظر في تفاصيله، كذا بالنسبة للشباب إبرام شحاتة والعجوز أمير طلعت، كان لكل منهما مكانًا في قاعة الصلاة، أمام جثث ذويهم.
كان مسلحون أطلقوا النار، صباح أمس الجمعة، على حافلة تقل أقباطًا، في الطريق المؤدي إلى دير الأنبا صموئيل المعترف أقصى شمال غرب محافظة المنيا، مما أسفر عن وفاة 7 أشخاصًا وإصابة العشرات، بحسب بيانات رسمية، فيما أعلن تنظيم (داعش) قبل ساعات مسؤوليته عن الحادث.
في منزله، بمحافظة المنيا، كان رضا، يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ليتفاجأ بخبر استهداف أقباط على طريق الأنبا صموئيل، أحس الشاب بنغزة في قلبه، لكن ما أن شاهد صورًا للمستهدفين، حتى سيطر عليه ذعرًا، أبى عقله أن يصدق، وتمنى أن يكون ما رآه كذبًا.
سريعًا ترجل رضا مع أسرته الصغيرة، إلى بيت العائلة الأكبر بمحافظة المنيا، ليسأل عن الأمر، فيأتيه الجواب الصادم، 6 من أبناء أخواله ضمن ضحايا الحادث، فقد صاحب الـ19 عامًا النطق للحظات، قبل أن يهرول إلى مستشفى مغاغة، حيث نقل باقي أفراد أسرته هناك، ضمن المصابين.
داخل حجرات المستشفى العام بالمنيا، تعرف "رضا" على تفاصيل ما حدث ظهر الجمعة، من خلال 8 مصابين، هم باقي أقربائه الـ14، الذين استقلوا جميعًا "الميكروباص" في رحلتهم إلى الدير.
يحكي عدد من أقربائه، الذين نجوا من الحادث، كما ينقل رضا في حديثه لمصراوي تفاصيل ماحدث؛ في حوالي الواحدة والنصف ظهرًا، كان "ميكروباص" العائلة في طريقه إلى العودة من دير الأنبا صموئيل المعترف، ليفاجأ الركاب بتصويب عدد من المسلحين طلقات الرصاص تجاه أتوبيس يتقدمهم، عرف الشاب فيما بعد بوفاة واحد من ركابه، كان هذا كفيلًا بأن يدخل الذعر إلى قلوب العائلة، اضطر سائق العربة التي تنقلهم إلى العودة في طريق الدير، لتلاحقه طلقات المسلحين، وتصيب رصاصتهم السائق واثنين كانوا في مقدمة العربة، والتي باتت لدقائق هدفًا لطلقات الرصاص العشوائي، مات 6 ركاب وأصيب أخرون بطلقات خرطوش في الرجل والكتف.
لم يكتف المسلحون بذلك، ترجلوا تجاه العربة، فتحوا بابها، ليستولوا من الركاب على ثلاثة تليفونات محمولة، ويفروا، انتهت حكاية الأقارب لرضا، الذي استقبل أسئلة المصابين عن الضحايا، يصف الشاب ذلك الموقف بالأصعب في حياته، كانت نفسية المصابين محطمة، أعصابهم تالفة، لذا لم يرد في لحظتها، لكنه اضطر إلى إخفاء الحقيقة عنهم، أبلغهم بأنهم ضمن المصابين بإحدى مستشفيات القاهرة.
في مايو من العام الماضي، وفي رحلة مماثلة إلي الدير تعرض أقباط إلى الهجوم بطريقة الاستهداف، في منطقة تبعد كيلومترات معدودة عن التي شهدت الحادث الأمس، مما أسفر عن مقتل 29 قبطيًا، وفي اليوم التالي أعلن (داعش) مسؤوليته عن الحادث.
ما زالت الترانيم ترتل داخل كنيسة الأمير تواضروس، يسكت "رضا" لثواني، ويردد الصلوات، قبل أن يعبر عن إحساسه جراء الحادث: "مفيش حاجة تانية ممكن أحس بيها.. عارف إحساس أن مفيش حاجة بقيت تفرق معاك؟".
نفس الشيء حدث مع إبرام شحاتة، الذي فوجيء بخبر وفاة ابنة خاله وإصابة طفلها عبر الصور التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.
بدأ الشاب يسترجع ما حدث، بعد أن هدأ النحيب داخل كنيسة الأمير تواضروس، خرج بصحبة زوجته إلى الممر الخارجي ليهدئها، تنهد طويلًا، قبل أن يحكي "عرفنا إنها توفيت وابنها اتصاب، مبقيناش عارفين نروح فين ونيجي منين؟".
ونعى الرئيس عبد الفتاح السيسي ضحايا الهجوم، في تغريدة على حسابه الرسمي على تويتر قائلًا: "أنعي ببالغ الحزن الشهداء الذين سقطوا اليوم بأيادٍ غادرة تسعى للنيل من نسيج الوطن المتماسك"، ليؤكد "عزمنا على مواصلة جهودنا لمكافحة الإرهاب الأسود وملاحقة الجناة".
لم تستوعب أسرة "شحاتة" ما جرى، كانوا يخبروهم أن المصابين انتقلوا إلى المستشفى بمدنية "مغاغة" إحدى مدن المحافظة تارة وإلى المنيا تارة أخرى، أكثر من ساعتين مروا، حتى علموا أن صغيرهم المصاب قد انتقل إلى مستشفى الشيخ زايد بالقاهرة، وجثمان أمه محجوز بمغاغة.
لم يكن لديهم الوقت ليتساؤلوا عن تفاصيل الحادث، فقط قسموا أنفسهم، جزء من العائلة يبقى مع الأم المتوفاه، بما فيهم الأب، الذي لم يقوى على فراق جثمان زوجته، و الجزء الأخر سافر إلى الصبي في القاهرة.
عبر اتصال تليفوني عرف أمير طلعت بالحادث ـ وصلت قرابة ونسب تربط أمير بعائلة شحاتةـ في الواحدة والنصف ظهرًا، اتصلت به إحدى المصابات، والتي سافرت فيما بعد إلى القاهرة لتلقي العلاج، أخبرته بكامل تفاصيل ما حدث، وصفت له دقائق الرعب والهلع وكيف نجت من الموت بأعجوبة؟.